Entretien avec André Compte-Sponville publié par Le Monde Des religions, mars-avril 2020 حوار نشرته مجلة لوموند دي روليجيون، عدد مارس-أفريل 2020. وحاوره فابيان تريكور
Traduit vers l’arabe par Ahmed Omrani__ترجمه من الفرنسية أحمد عمراني
نشرت الترجمة على على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك: صفحة أفاق فلسفية
أندريه كونت سبونفيل : (من مواليد 1952) فيلسوف فرنسي يُقدِّم نفسه على أنه ذو نزعة مادية وإنسانية. من بين مؤلفاته : (أصول لحكمة مادية، 1983)، (مقالة صغيرة في الفضائل الكبرى، 1999)، (روح الإلحاد، تمهيد لروحانية بدون إله، 2006) (متعة العيش، 2010) (معجم فلسفي، 2013).
ماذا تقصد بـ (روحانية بدون إله) ؟ –
أندري كونت-سبونفيل: ماذا تعني الروحانية ؟ إنها حياة الروح، وبالتحديد علاقتها باللامحدود وبالأزل وبالمطلق. إن كل دين يقوم على الروحانية، على الأقل في جانب منه ؛ لكن ليست كل روحانية بالضرورة دينية ! حتى الملحدين يعرفون هم أيضا حياةً روحيةً : يختبرون كل حسب طاقته محدوديتهم مع اللامحدود، وزمنيتهم مع الأزل، ونسبيتهم مع المطلق. ليس هذا المطلق بالنسبة إليهم شخصا، بل هو الوجود أو الآتي، وهو الكل أو الطبيعة، فلنقل إنه هذا الكل المتداخل الذي يحويهم ويتجاوزهم. وبإمكانهم أن يتساءلوا حول هذا المطلق وأن يُفكروا فيه، وهذا ما نسميه الميتافيزيقا، لكن بمقدورهم أيضا أن يُجربوه ويعيشوه، وهذا ما نطلق عليه اسم الروحانية. نحن منفتحون داخل هذا الانفتاح الواسع كما يقول الشاعر ريلكه . وهذا الانفتاح هو الروح بعينها. فهل كوني ملحدا يفرض عليّ أن أتخلى عن كل تجربة مع الأزل واللامحدود والمطلق ؟ حتما، لا ! فقد دحض العديد من الفلاسفة – مثل إبيقور وسبينوزا – وجود كائن متعالٍ، دون أن يتخلوا عن التمتع بما يسميه إبيقور بـ (الموجودات الأزلية). وهذا ما أُسمّيه روحانية تداخل الذات في الكون. نحن الآن في ملكوت الحياة : والأزل هو الآن.
لماذا تُفضّل القول بأن الله غير موجود ؟ –
إنه ليس تفضيل شيء على شيء ! بالعكس، لو خُيّرتُ بين الاثنين لكنتُ فضّلت وجود الله، وإمكانية الاختيار هي إحدى الأسباب لعدم إيماني به. إن وجوده يتطابق لدرجة كبيرة مع أقوى رغباتنا، فكيف لا نشك في أن وجوده اختُلق لتلبية هذه الرغبات ؟ وهذا ما يسميه فرويد بالوهم : وهو اعتقاد منبعث من رغبات إنسانية. وبما أنه لا يوجد أي كائن مرغوب فيه غير الله فإنه لا توجد فكرة مشكوك في وهمها كالاعتقاد في وجوده. ثم يوجد فظاعة الشر (خاصة معاناة الأطفال)، ورداءة الإنسان (وأبدأ بنفسي!)، وغياب أي دليل حقيقي على وجوده … لماذا علي الاعتقاد في وجود إله لا شيء يدل عليه، ولا أملك عنه أية تجربة، وكل تفسيره للأشياء يتوقف على اعتباره هو نفسه غير مدرَك ؟ رغم كل هذا فإني ملحد غير متزمت. إنّ الحجج التي تنفي وجود الله تقابلها أخرى تُثبت وجوده. وإلحادي لا يدخل في باب العلم، بل في
باب الاعتقاد أو الاقتناع.
ما ردك على الأجوبة التي تُقدمها الأديان ؟ –
ليست الروحانية الخاصة بالأديان هي نفسها روحانيتي. في حين مازال محتواها الأخلاقي يُنيرني. لنفترض مثلا أنّ يسوع لم يقم من قبره، هل هذا يُلغي رسالته القائمة على الحب والسلام ؟ حتما، لا ! أنا أتصرف مثل سبينوزا الذي لم يكن مسيحيا أكثر مني : أحاول أن أبقى وفيا لـ (روح المسيح) القائمة على (العدل والرحمة). فإن المسيحية رغم انحرافات الكنيسة تبقى من أحسن ما أنتجت الإنسانية، على غرار التراث السقراطي في اليونان والتراث البوذي في الهند والتراث الطاوي أو الكونفوشسي في الصين… إن الروح لا موطن لها، وهذا من حسن حظنا !
هل تُفضِّل المسيحية على غيرها من الأديان ؟ –
عاطفيا، نعم، لأن المسيحية جزء من ماضيّ. أما فكريا فأُحسُّ نفسي أقرب من البوذية أو الطاوية – وأكثر قربا من زان الذي يُقدِّم تركيبة بين الاثنتين – كونها كلها روحانيات بدون إله. وهذا جد عملي بالنسبة لشخص ملحد ! في حين لا أستسيغ السياحة الروحية على شاكلة حركة العصر الجديد أو تلك المتشبِّعة بالروح الشرقية. أستأنس أكثر لتعميق ثقافتي الخاصة، ثقافة الفيلسوف الغربي. علاوة على ذلك، لا يمكن للإنسان أن يتنصّل من آثار طفولته وقد كانت طفولتي مليئة بالورع. ومن حينها كوّنتُ مع الأيام مسيحا باطنيا، لا هو الرب ولا ابن الرب، إنما إنسان (وديع متواضع القلب) كما يقول المسيح عن نفسه، إنسانٌ لا أشاطر معتقده إلا أني أُقدِّر حكمته. وفي حقيقة الأمر، إن ما يقوله لنا المسيح عن الإنسان وعن هذه الحياة يهمّني أكثر مما يقوله حول الله وحول احتمالية الحياة بعد الموت.
أيمكن لهذه الروحانية الملحدة والمستوحاة من دين آخر مختلفة عن الروحانيات الأخرى ؟ –
كلنا نحمل ثقافة أو عدة ثقافات. فأنْ يكون المرء ملحدا في دار الإسلام أو أرض الهندوس فهذا حتما مختلف على أن يكون ملحدا في أوربا. لكن لا خيار لي : أنا من الغرب، شئتُ ذلك أم أبيت. لن أَحْلق شعر رأسي ولن ألبس عباءة زعفرانية اللون، ولن أُنشئ أشرما هندوسيا في منطقة الأوفارني الفرنسية. وقد ساعدني أصدقائي اليهود على التفكير في ذلك. فالكثير منهم يعتبرون أنفسهم (يهودا ملحدين) : ملحدون لأنهم لا يؤمنون بأي إله، ويهود لأنهم يدركون ويريدون أن يكونوا جزءا من تاريخهم وثقافتهم وطائفتهم… وعلى شاكلتهم كنت أحيانا أعتبر نفسي (ملحدا منتميا لثقافتي)، بل حتى من (الأغيار المندمجين –) . إنها طريقتي في التعبير عن انتمائي لثقافتي، وهي طريقة نقدية للتراث اليهودي المسيحي بنبرة ازدراء واستخفاف، بالرغم من أني ما زلت معجبا بعظمة هذه الثقافة. والانتماء للثقافة هو ما يبقى من المعتقد بعدما ينعدم إيماننا به : هو الإحساس بدَين ما، وبالتالي الشعور بثقل بتوريثه. ليس التعصب الذي هو فرط في الإيمان ما يهددنا اليوم بشكل عام في أوربا بل العدمية التي هي انعدام الإحساس بالانتماء للثقافة.
ماذا عن المجتمعات : هل بإمكانها الاستغناء عن الدين ؟ –
إذا أخذنا كلمة (دين) بمعناه الضيق القائم على الاعتقاد في إله خالق، يُحاكي الإنسان ويكون متعاليا في نفس الوقت فإن الإجابة ستكون بطبيعة الحال : نعم. لأن حضارات عظيمة ازدهرت بدون هذه التصورات. بالعكس، لا يمكن لأي مجتمع الاستغناء عن الانتماء والقوانين والتقاليد والطقوس. ولا يمكنه البقاء بدون شكل من أشكال المشاركة والانسجام . هل تلعب الممارسات الدينية وحدها هذا الدور ؟ إن التجربة تثبت عكس ذلك. كما أنه يمكننا أيضا أن نجتمع حول مجموعة من القيم المشتركة (مثل الحرية، والمساواة، والأخوة، والعدالة، والحب،…)، حتى عندما نعتبر هذه القيم إنسانية محضة ولا علاقة لها بالدين.
هل يمكن لهذه الروحانية اللائكية أن تصبح دينَ (الإنسانِ) أو دينَ (الجمهوريةِ) ؟ –
عندما نعود لا نؤمن بالله فإنه يستهوينا استبداله بشيء آخر لتعويضه. وهذا من وجهة نظري أمر خطير أكثر مما هو جيد. إن الماركسية مثلا تمّ اعتبارها (دين التاريخ). وجانبها المهدوي : أن تأخذ البروليتاريا مكان المهدي، والشيوعية مكان الجنة… وهذا ما أرى فيه تصنيما للتاريخ. وقد نبَّهَت له سيمون فاي بشكل جيد بقولها : (إن كنتَ تعتقد أن لك ربًّا في هذه الحياة فإنه إله مزيف ؛ حتى وإن كنت تعتبر نفسك موحِّدا فأنت في الحقيقة وثني.) والأوثان كُثُر : الدولة عند هيغل، والإنسان عند فيورباخ، والتاريخ عند ماركس، والجمهورية ربما عند بعضهم… بالعكس من ذلك، تكمن عظمة الديانات التوحيدية أنها أنتجت التعالي. إن عصر الآلهة المتعددة قد ولّى : ولم يبق حسب الفيلسوف آلان، إلا (الغياب الشاسع، الموجود في كل مكان). وهذا تقدّم نُدينُ به لليهودية. ولا تنتابني أية حسرة على أفول الديانات الإيحائية أو المتعددة الآلهة، بل على العكس من ذلك أُثمِّن أفولها، ولا أستسيغ أيضا الأوثان.
في الختام، ما الفرق بالنسبة لك بين الروحانية الملحدة والروحانية الدينية ؟ –
إن المطلق في الدين هو شخص، وبالرغم من أنه حتما متعالٍ، إلا أنه يمكننا أن نجده وندعوه ونعبده. أو كما يقول القديس أوغسطين (إن الله هو أكثر عمقا في باطني من نفسي)، مع أنه أعلى من السماء… وأنا لا أثق في هذا العلو الذي يدوس كل شيء، ومن هذا الانطواء على الذات الذي يسجننا في دواخلنا. أؤمن أكثر بالروحانيات التي تفتحنا على العالم، والتي لا تعرف مطلقا آخر غير الواقع، وليس لديها لامحدود غير الطبيعة، ولا تدرك أزلا غير الحاضر. إنها فلسفة إبيقور وسبينوزا وكامو، وأيضا فلسفة زان (zen) حسبما فهمتها أو عشتها. ولا يتعلق الأمر يإنقاذ الأنا بل بإنقاذ أنفسنا من الأنا والتحرر منها على قدر طاقتنا. فالمطلق ليس مبتغى الطريق بل هو الطريق بحد ذاته. والروحانية هي هذه الطريق التي نعيشها في أغلب الأحيان من وجهة نظر الزمن، بمعنى في الحياة اليومية، بحُلوِها ومرّها، ويصادف بعض المرات أن نجرّبها (من وجهة نظر الأزل) كما يقول سبينوزا.أنت نفسك تدافِع عن نوع من التصوف، فما الذي يجعله غير ديني ؟لأنه لا يفترض أية فكرة متعالية أو عقيدة أو شعيرة أو اعتقاد أو أمل ! يحدثُ في بعض المرات القليلة أن أعيش ما يمكن تسميته بـ (حالات الوعي المتغير –) : الشعور المفاجئ بما هو خفي وبما هو بديهي، وتذوّق تجربة انشراح وبساطة ووحدة وسكون وأزل وهدوء وتسليم ( لكن تسليم سعيد، في غاية السعادة !)، كسلام لا متناهٍ… هذا ما يسميه فرويد، مقتبسا إياه من رومان رولان ، بـ (الشعور الكوني ) الذي خبِره ملايين الأفراد، المؤمنين منهم وغير المؤمنين. وأنا منهم ولم أعش أبدا شعورا بهذه القوة وبهذا الكم من السعادة. لهذا (نحس ونعيش تجربة أننا أزليون) كما يقول سبينوزا، أو بالأحرى يصبح الحاضر والأزل شيئا واحدا متطابقا، مثل سامسرا (التحول المستمر) ونيرفانا (نهاية التحول) عند الفيلسوف البوذي ناجارجونا . ولم نعد منفصلين عن الواقع عن طريق الأنا : إذ لا يوجد إلا الكل. ويؤكد ألكسندر كوجاف أنّ (كل تصوف حقيقي هو بطريقة أو بأخرى نوع من الإلحاد). ولا أوافقه هذا القول تماما. في حين، أعتقد من خلال تجربتي أن الملحد ليس مرغما على أن يُضحي بروحه : روحه قادرة مثل روح غيره على أن تنفتح وتنشرح لأقصى درجات السعادة حيث تبلغ ذروةً تمّحي فيها.