الإنسانية على طريق الأرض-الوطن 

سؤال: لنبدأ إذا تفضلت بسؤال عام. يتعلق الأمر بتعريفك للإيكولوجيا. ما هي الدلالات التي تحملها هذه الكلمة داخل تصورك للعالم؟.
ادغار موران: أعطي لكلمة إيكولوجيا أولا معنى ينحدر من البيولوجيا. لقد ظهرت الإيكولوجيا أواخر القرن 19 للإشارة إلى علم الوسط الطبيعي حيث نحيى. ثم تطور هذا العلم بشكل كبير جدا في الستينيات. وهناك مفهوم أخر فرض ذاته مع الإيكولوجيا: إنه مفهوم النسق البيئي. هذا مفهوم هام جدا لأنه يقر بأن التفاعلات بين العالم الحيواني والعالم النباتي والأجهزة وحيدة الخلايا والمحيط الفيزيائي والمناخ الخ.. تسمح بانبثاق نسق حي صدفوي ينظم ذاته بذاته. ثم بعد ذلك توسع هذا التصور إلى مجموع الحلقة الحية.
تستعيد الإيكولوجيا كعلم ما كان يعرف بشكل ما في السابق بفكرة الطبيعة. قام العلم الكلاسيكي بتفتيت أوصال هذه الفكرة – علما أنها فكرة عميقة حقا. يتمثل إسهام الإيكولوجيا فيما يخص فهم الطبيعة في رفعه من شأن البعد التنظيمي لهذه الأخيرة. يسمح هذا البعد، بالفعل، لنسق حي بأن ينظم ذاته بذاته ويواجه الأخطار التي تترصده الى أن يتحلل وقد يفنى. نرى ذلك جيدا اليوم مع تغير المناخ الذي يولد أخطارا حقيقية تهدد الجو، والأرض، وسكان الأرض.
سؤال: أين تتموضع الوحدة أو الفضاء المشترك بين هذه الإيكولوجيات الثلاث
جواب: إن القاسم المشترك بين هذه الدلالات الخاصة بالإيكولوجيا هو “السياق”. إذا لم نضع الأشياء داخل سياقها، لا يمكن أن نصل إلى بناء معرفة وجيهة، لا حول الأوساط ولا أيضا حول الروابط الموجودة بين مختلف الكائنات والأنظمة الحية. وتهم الموضعة السياقية هنا الكائن الحي بقدر ما تهم الحدث. لقد تمثل أحد أهم مكتسبات العلم الإيكولوجي في إعادة الاعتبار لإشكالية السياق، الذي هو الإطار، نسيج العلاقات التي تنظم الإنسان والطبيعة.
وحتى ظهور الإيكولوجيا العلمية، كان هناك اعتقاد بأن معرفة الظواهر تتطلب عزلها عن بعضها البعض، أي بعبارة أخرى عزلها عن سياقها. بالتالي كان يتم تحديد العالم والطبيعة كعوالم من المواضيع المفصولة عن بعضها، التي يمكن موضعتها بشكل واضح، والتي لا وجود لأية روابط أساسية بينها.
سؤال: ما هو بالنسبة لك التأثير الرئيسي، على مستوى الأرض ذاتها للمعرفة، لهذه المقاربة التي تقوم على فصل أشياء الواقع عن بعضها البعض؟.
 الحساب، والكم، والتقنية. وهذه المقولات توجد في قلب قيم الرأسمالية واقتصادها. والحال أن الخروج من الأزمة الإيكولوجية، ومن التنمية، ومن الرأسمالية يفترض أن نتوجه نحو مقولات وقيم أخرى. على السياسة الكبرى البديلة للرأسمالية أن تتوجه نحو قيم كيفية، أن تدافع على جودة الحياة، على الرابطة الاجتماعية، على الثقافة، على الطبيعة. يتعلق الأمر بتحول أساسي في النموذج العام للحضارة. لذلك تحدثت، لمرات كثيرة في كتاباتي، عن ضرورة “سياسة للحضارة”.
سؤال: ما علاقة هذه السياسة الإيكولوجية الكبرى بما تسميه “إصلاح الفكر”؟.
جواب: الرابط ـ وهو أساسي ـ هو أن كل الإصلاحات التي تروم هذه السياسة الإيكولوجية الكبرى تنزيلها هي إصلاحات متضامنة ومتداخلة. والحال أنه لا يمكن أن يكون هناك أي تغيير عميق، وفي أي مجال كيفما كان، بلا إصلاح للعقل أسميه أيضا “إصلاح الفكر”. إن هذا الإصلاح هو الذي باستطاعته أن يجعلنا نقر بالطابع الأساسي والشمولي للأزمة التي نمر منها ونواجه التحديات التي تطرحها. بلا هذا الإصلاح سنستمر عرضة لمختلف التسميمات الاستهلاكية والإشهارية ولكل أشكال التجهيل والتضبيع. يلزمنا الطابع الشمولي للأزمة الإيكولوجية بأن نفتح عددا كبيرا من أوراش الإصلاح. ويجب إطلاق هذه الأوراش بشكل مثالي ومتزامن، حتى يمكننا أن نوجهها جميعها وجهة واحدة صوب طريق جديد يجب أن يكون طريقا ثوريا.
سؤال: لا يمكن فصل إصلاح الفكر الذي تطالب به عن نوع جديد من التربية. توضح المادة 11 من الميثاق العابر للتخصصات القيم التي تعتبرها أنت وزملائك مؤسسة لهذه التربية: “إن تربية أصيلية لا يمكنها أن تعطي الأولوية للتجريد في المعرفة. إذ عليها أن تدرس طرق وضع الأمور داخل سياقها، وطرق تفعيلها على الأرض، وطرق النظر إليها نظرة شمولية. تعيد التربية العابرة للمعارف النظر في الدور الذي يلعبه الحدس، والخيال، والإحساس، والجسد في بث المعارف”.
جواب: إن أحد المشاكل الأكثر دراماتيكية التي يواجهها العلماء على أرض المعرفة هو أن هناك هوة كبيرة جدا بين ديناميتين. تخص الدينامية الأولى الكتلة الكبيرة جدا للمعارف التي بنيناها وراكمناها حول المواضيع كما يتم تمثلها بوصفها مواضيع مفصولة عن بعضها البعض. وتخص الدينامية الثانية ضعف المعارف المتعلقة بالروابط الموجودة بينها. لا زلنا عاجزين، حتى وإن كانت الإيكولوجيا قد ظهرت أصلا منذ قرن، عن ربط هذه المعارف والمباحث التي نحتت داخلها. إن هذا العجز بالذات عن تركيب المعارف، و”تبيئتها”، وربط المباحث الى بعضها البعض هو ما يجعل من الصعب فهم المشاكل الأساسية للكوكب.
سؤال: كنت مع ليما دو فريطاس وباساراب نيكوليسكو أحد مؤلفي الميثاق العابر للتخصصاتTraité….، الذي تمت إذاعته للعموم سنة 1994. توضح المادة 8 من هذا الميثاق ما يلي: “إن كرامة الكائن البشري هي أيضا كرامة من طبيعة كونية وأرضية. شكل ظهور الكائن البشري على سطح الأرض واحدة من مراحل تاريخ الكون. والاعتراف بالأرض كوطن هو من ضمن مطالب التصور العابر للتخصصات. صحيح أن لكل كائن بشري الحق في هوية خاصة، لكن كل كائن يشكل، وفي الوقت ذاته، وباعتباره واحدا من سكان الأرض، كائنا عابرا للأوطان”. نجد هنا كثيرا من مواضيع أبحاثك، بدءا بموضوعة “الأرض/الوطن”. إلى ماذا يشير هذا الشعور بالانتماء، هذا البعد المزدوج “الكوني والكوكبي”؟.
جواب: قبل الحديث عن الاحساس بالانتماء إلى الأرض/الوطن، أود توضيح ما يلي: نحن نعلم اليوم أننا نتوفر على هوية مزدوجة!. نتوفر أولا على هوية كونية، وفيزيائية، وكيميائية. نحن مشكلون من جزيئات، هي نفسها مشكلة من ذرات وجسيمات. تشكلت هذه الجسيمات في اللحظات الأولى لظهور الكون، أي منذ 15 مليار سنة. إننا نحمل تاريخ الكون فينا. لكن هذا التاريخ ليس هو البعد الفاعل الوحيد، لأن هويتنا هي أيضا من طبيعة أرضية. بالفعل، وانطلاقا من المغامرة الفيزيائية الطويلة، ولدت الحياة فوق كوكبنا كتنظيم مركب من جزيئات كبرى. وهذا التنظيم هو ما يمنحنا بعدنا البيولوجي. تقوم هوية الإنسان إذن على هذا الرابط الوثيق بين التاريخ الفيزيائي للكون والتاريخ البيولوجي للكوكب. لكن يجب أن نوضح أن الإنسان لا يختزل في هذه الأبعاد، لأنه وعبر واسطة اللغة والثقافة سيطور مع الوقت كفايات إنسانية تحديدا. إني أطرح مسألة الإحساس بالانتماء إلى الأرض/الوطن في سياق هذه الهوية المزدوجة للإنسان، الهوية الكونية والكوكبية. أذكر أولا بأننا أطفال هذه الأرض، لأننا جميعا منحدرون من التطور البيولوجي الذي تحدثت عنه للتو، وهو التطور الذي حصل فوق أرض كوكبنا (وليس في مكان أخر). ثانيا يجب ألا ننسى بأن كل البشر يتوحدون على مستوى الأصل. يمكننا اذن أن نتمثل وحدة النوع البشري بالذات انطلاقا من تنوع الطبائع والثقافات واللغات والتواريخ الاجتماعية الخ.. بطبيعة الحال، لا يمكن لهذه الوحدة أن تخفي التنوع البشري، وإلا سنحصل على تصور مجرد تماما للمغامرة الإنسانية. إن هذه الوحدة الإنسانية – التي تشمل مستويات متعددة: جينية، تشريحية، فيزيولوجية، عاطفية، دماغية – هي بالضبط ما يسمح للتنوع بالتطور. هكذا يصبح من الممكن القول بأننا نتوفر جميعا على هوية مشتركة وعلى مصير مشترك. ووحدة الأبعاد هاته تنكشف على مستوى الأرض ذاتها.
سؤال: هل ساهمت ظاهرة العولمة في نمو هذا الوعي الكوكبي؟ وإذا كان الجواب بنعم فكيف تم ذلك؟.
جواب: بلا أدنى شك، لوحدة المصير هاته علاقة بالعولمة. في نهاية المطاف، إن ما أنتجته العولمة أمر مزدوج: تبعية من جهة، وأخطار مشتركة من جهة أخرى. كل المسار الجاري حاليا هو مسار تدهور الكوكب وبالتالي تدهور شروط إمكان الحياة. نستمر في فبركة أسلحة الدمار الشامل، وفي الإخلال باقتصاداتنا، وفي تعميق الفوارق بين الشمال والجنوب وداخل المجتمعات.. وإذا كانت وحدة المصير تعني أيضا وحدة الأخطار التي تترصدنا كنوع، فالسبب هو أننا نتوحد على مستوى الحياة والموت. كان أوطو باور هو الذي عرف الأمة انطلاقا من المفهوم الذي أبدعه هو نفسه والذي هو مفهوم “المصير المشترك”. اليوم ليست الأمة هي التي عليها أن تلعب هذا الدور، ولكن الأرض/الوطن
إذا ما أصبحت هذه النظرية عقيدة، فإنها تنغلق على نفسها مكتفية بمنطقها الخاص وبالحجج القديمة التي منحت لها شرعية نسبية فتصبح مذهبا، دوغما. في تصوري، يمكننا على مستوى المذهب/الدوغما أن نميز بشكل أفضل المرض عن العقلانية، باعتبار أن الأول هو ما أسميته “العقل المغلق”. في هذه الأمراض يمكننا أيضا أن نكتشف “التبرير العقلاني” الذي يتمثل في بناء خطاب عقلاني يفسر كل شيء، ويدمج كل شيء، وحتى ما لا يمكن تفسيره، أو ما ليس عقلانيا. يتعلق الأمر ب “هذيان منطقي” ليس له أية أسس واقعية، ـ أذكر أن هذا هو ما سبق أن استشفه فرويد جيدا. يمكننا أن نتحدث أيضا عن مقولة أخرى، هي “العقلانية التسخيرية”. يقوم أشخاص وجماعات وشركات ودول بتسخير موارد العقل لأهداف في بعض الأحيان لاعقلانية تماما من وجهة نظر مصالح البشرية فوق الأرض من مثل صناعة أسلحة الدمار الشامل.
سؤال: هل هناك بديل عقلاني “للعقل المغلق”؟.
جواب: لحسن الحظ نعم. لقد سميت هذا العقل البديل “العقل المفتوح”. وهذا العقل الذي يقر بمسؤوليته عن أخطائه المحتملة هو بطبيعته عقل ناقد لذاته وواع بحدوده. وبالفعل، فإن العقل المفتوح يقبل بوجود حدود للمعرفة وباستحالة تفسير كل شيء بشكل عقلاني. وعلى عكس العقل المغلق، يوجد العقل المفتوح، وفي جميع الحالات، في حوار دائم مع الواقع، ويرفض أن ينغلق في حوار أحادي مع نفسه.
سؤال: أفترض أنك تعتبر على المستوى الفكري والعلمي العقل المغلق واحدا من مكونات النسق التاريخي الذي كان وراء الأزمة الإيكولوجية؟.
جواب: ما يمكن قوله هو أن العقلانية المغلقة قامت بشكل كامل بفصل الإنسان والمجتمع عن الطبيعة. والحال أننا لم نكن نعي إلى أي حد أننا كنا مرتهنين للوسط الطبيعي، من أجل مأكلنا، وصحتنا، وتوازننا العقلي..الخ.. لم نكن نعي أن اندحار الطبيعة كان الوجه الأخر لاندحارنا نحن. كانت هذه العقلانية المغلقة مرتبطة بالأسطورة – التي كانت تعتبر عقلانية – التي كانت تزعم بأن واجب الإنسان هو تحديدا أن يغزو الطبيعة. ومع الأزمة الإيكولوجية، نعيد اللقاء، أخيرا، بمعنى الحدود، ونقر بالشروط الضرورية لانبثاق معرفة وجيهة حول الإنسان، والمجتمع، والطبيعة.
سؤال: ما هي، تدقيقا، الشروط الضرورية لتطور مثل هذه “المعرفة الوجيهة”؟.
جواب: يتمثل الشرط الأول الذي سبق وأن تحدثنا عنه في وضع الأمور داخل سياقها. يمكن القول بأن العجز عن وضع مغامرة المجتمعات البشرية داخل سياقها، داخل العالم الطبيعي الذي كانت تتحقق في قلبه، كان هو عيب العقلانية المكتفية بذاتها والمغلقة. إن ما نحن بحاجة إليه هي نظرية في المعرفة لا تقتصر على دراسة المواضيع المعزولة، ولكن تتكلف أيضا، وخصوصا، بفهم الأنساق والسياقات التي تتطور داخلها تلك المواضيع. وحتى تكون وجيهة، على المعرفة أن تموضع داخل سياقها وليس فقط أن تكون متطورة جدا.
سؤال: في الفصل الذي تشرح فيه المعرفة الوجيهة تربط بين أربع مقولات: السياق، الشمولي، متعدد الأبعاد والمركب. أريد أن تتحدث لنا عن متعدد الأبعاد. بشكل خاص، أريد معرفة موقفك من تعبير السوسيولوجي الألماني هربرت ماركوز، وهو التعبير الذي يشكل عنوانا لأحد كتبه، الإنسان أحادي البعد؟.
  1.  بطبيعة الحال، تتوفر هذه المعارف على جزء من الشعوذة، لكن للطب الحديث أيضا شعوذاته.
    ومع تقلص، وربما نهاية المعارف الحسية وما سميتموه “المتخيلات الإيكولوجية للعالم القروي”، فإن جزءا كبيرا من التنوع الكوكبي سينطفئ بلا رجعة. يجب أن نحتفظ عميقا داخل عقولنا بالعلاقة الأساسية بين التنوع الثقافي والتنوع الحيوي. وكما أن الوحدة الإنسانية أنتجت تعددية الثقافات واللغات، فإن وحدة الحي أعطت التعددية الإيكولوجية، الطبيعية. وبعبارة واحدة، سأقول بأن الوحدة هي كنز التنوع وبأن التنوع هو كنز الوحدة!.