Mohamed adel Mtimet__ محمّد عادل مطيمط
ترتبط الفلسفة عند الجميع بدلالة تحررية وتنويرية واضحة. فنحن عادة ما نمتدحها وندعو إلى العناية بتدريسها وإلى توسيع نطاق الاهتمام بها ليشمل تلاميذ المرحلة الابتدائية (الفلسفة للأطفال) ودارسي الاختصاصات غير الإنسانية والأدبية من العلوم النظرية والتطبيقية. نحن ندعو إلى ذلك نظرا لارتباط الفلسفة عندنا بتلك الدلالة التنويرية، ولاقتناعنا بأنّ الفلسفة وحدها تكون قادرة على تخليص الفرد من ضروب الدغمائية وعلى تمكينه من استقلالية الموقف وتشذيب ملكة النقد لديه.غير أن وجود فلاسفة أو مشتغلين في حقل الفلسفة يتبنون مواقف محافظة وأحيانا متطرفة وظلامية، يجعلنا نعيد طرح السؤال: أيّ فلسفة نريد؟ وأيّ فلسفة يجب أن تقدم للأجيال لكي تكون قادرة على الاضطلاع بدورها النقدي والتنويري؟ وهل أنّ كل فلسفة صالحة لتكون رافدا للتحرير والتنوير؟
نحن مقتنعون بكون الرأي القائل بأن الفلسفة طريق إلى التنوير والى تمكين الفرد من استقلالية الموقف هو الأقوى والأكثر وجاهة وهو ما يجعل الاهتمام بها وتدريسها للأجيال أمرا ذا معنى. وتتأتى جدارة هذا الموقف في رأينا من معطيين أساسيين اثنين:
يرتبط الأول بماهية الفلسفة نفسها مثلما تحدّدت منذ « سقراط » على أنها »محبة الحكمة » (فيلو-صوفيا)، وعلى أنها مسار تحرر من الأحكام المسبقة و »دربة على الموت » مثلما يقول. فالتدرّب على الموت عند « سقراط » هو مسار التحرر من قيود الجسد التي تشدنا إلى الأوهام الحسية والادراكات الخادعة. إنّ الفلسفة في معناها السقراطي الأصيل تجربة تحرّر. الأمر نفسه يقال عن الفلسفة بما هي شك مع « ديكارت » أو بما هي نقد مع « كانط »… الخ. وهل من قيمة إنسانية تكون أسمى من الحرية؟
أما المعطى الثاني فهو ارتباط الفلسفة بالمشروع التربويّ التنويريّ للدولة والمجتمع الحديثين، ذلك المشروع الذي يتطلب تهيئة الفرد للتخلص من مكوناتِ الوعي التقليدي، الدينية والجماعوية (نسبة إلى الجماعة) حتى يتسنى له الدخول في دائرة المواطنة التي ترتكز عليها الدولة الحديثة ذات النظام القانوني العقلاني الذي هو في النهاية مستمد من خطابِ الأنوار الحديث.
وبناء على ذلك فإنّ الفلسفة تمثل هدفا مشتركا للفرد الذي يطلب التحرّر، وفي الوقت ذاته، للدولة التي ترمي إلى بناء المجتمع الحديث: ثمة هنا تقاطع وتكامل واضح بين مسار الفرد المتحرر والباحثِ عن المعنى بفضل التفلسف من جهة، ومسار الدولة المؤطرة التي ترمي إلى تربية الفرد لتنظيم العلاقات داخل الفضاء الاجتماعي والسياسيّ من جهة أخرى. إنه التقاطع والتكامل بين الوظيفة التحررية والوظيفة التربوية اللتين جعلتا من الفلسفة مطلبا للفرد وللدولة الحديثة في الآن نفسه. ذلك هو ما يفسر الحضور القويّ للفلسفة في المناهج الدراسية في دول مثل فرنسا أو تونس وغيرهما. فالأمر يتعلق وفق تعبير « ميشال توتزي »، بضرورة أنْ يستخدم المرءُ عقله في إطار مواطني
( « Exercer sa raison dans une perspective citoyenne »)
(Michel Tozzi, « Pourquoi enseigner la philosophie ? », Entretiens de la Cité de la Villette, novembre 1999)،
أيْ أنْ يمارس حريته في إطار عقلاني وقانوني.
غير أن هذا التصور للفلسفة الذي انتصر إلى حينٍ بفضل طبيعة الفلسفة نفسِها وبفضل المشروع التنويري للدولة الحديثة، لم يكن وحده على الساحة سواء قبل « كانط » أو بعده. لقد كان عليه أنْ يواجه رؤية أخرى للإنسان والمجتمع تشتغل من خارج الفلسفة (انطلاقا من الدين ومن الثقافة بشكل عام) ومن داخلها في الوقت نفسه (الفلسفات المعادية للتنوير من « ج »فيكو » إلى المحافظين الجدد في الولايات المتحدة). ولقد ارتبطت هذه الرؤية بنزعتين معاديتين للأنوار تختلفان في مدى نسبة كل منهما إلى حقل الفلسفة، ولكنهما تقودان إلى النتيجة نفسِها. يتعلق الأمر بما يعرف بـ:
معاداة الفلسفةl’Anti-philosophie
مُعاداة الأنوار l’Anti-Lumières
إن تأثير هاتين النزعتين على مسار تطور الثقافة بشكل عامٍ وعلى مسار تطور الفلسفة نفسِها في القرن العشرين، مضافا إلى ذلك عوامل أخرى متصلة بمسار نقد عقلانية الأنوار (مدرسة فرانكفورت) وانفتاح الفلسفة المعاصرة على ما يسميه « باديو » بـ »اللّا-فلسفي »، هو ما سيوفر لكل المواقف المعادية للعقلانية والتنوير أرضية ثقافية وفلسفية تبحث داخلها عن مبرراتٍ لوجودها واستمرارها. فإذا كان الأمرُ يتعلق بمناهضة سلطة العقل فانّ هذه المواقفَ يمكنها أن تجد ما يكفي لتغذية نفسها ليس في نزعة معاداة الفلسفة ونزعة معاداة الأنوار فقط، بل وفي أطروحات الفلسفة المعاصرة الوضعية والصوفية والفنمنولوجية والوجودية التي خرجت كلها عن منطق العقل الكلاسيكي والنقدي. في نظر « وليام باريت » مثلا، يمثل كلّ من »نيتشه » و « كيركغارد » و »هايدغر » و »سارتر »، رموزا لمعاداة الأنوار التي يجب أنْ يعود الاهتمام بها اليوم
(William Barret, Irrational Man, New-York, Doubleday, 1958, p. 244 ).
ولكن لنتوقف أولا عند تعريف النزعتين المذكورتين:
ففي ما يتعلق بـمعاداة الفلسفة ،
(Antiphilosophisme, antiphilosophie )
يتعلق الأمر بنزعة دينية وسياسية يعود بروزها إلى القرن الثامن عشر في أوروبا حيث كان هدفها مواجهة تصاعد قوة الخطابِ التنويري الذي رأت فيه استخداما حرّا للعقل يمثل تهديدا للإيمان والقناعات الدينية ومن ثمة تهديدا لاستقرار النظام المجتمعي الخاضع لتلك القناعات وذلك الإيمان. فهي ليست فلسفة بل موقفا ضد الفلسفة التنويرية من خارج حقل الفلسفة نفسِه. ولكن بعض الفلاسفة المعاصرين مثل « آلان باديو » سيجعل من معاداة الفلسفة صفة لكل فكر يرى أن الحقيقة ليست حكرا على التصورات العقلية، بل يقر إنها تتجسد في مستوياتٍ أخرى نفسية وروحية وحسية يعبر عنها المرء بوسائط أخرى أدبية أو فنية وليس عبر التصوّرات العقلية الجافة. وقد ساهم هذا التعريف الجديد في التداخل بين نزعة معاداة الفلسفة التي ارتبطت في معناها الأصلي بموقف ديني وسياسي، والحقل الفلسفي المعاصر الذي تطورت فيه نظرياتٌ تبحث عن المعنى والحقيقة خارج حقل العقل الذي كان أساس فلسفة التنوير(« وليام باريت »، المرجع المذكور). (ويطول الحديث هنا في ما يعتبره « باديو » فلسفة معادية للفلسفة لا تقوم على بناء التصوراتِ المجردة بقدر ما هي شهادة على تجربة عميقة تدرك ما هو مباشر وباطني وأعمق من شكلانية التصورات العامة. انظر محاضرته: « نيتشه ومعاداة الفلسفة »، ديسمبر 2017). ولكنّ المهمَ هنا هو أننا سواء أخذنا معاداة الفلسفة في معنى تلك النزعة الدينية والسياسية المناهضة لعقلانية الأنوار، أو في معنى كونها تلك الفلسفة التي لا تثق في العقل وتبحثُ عن الحقيقة والمعنى خارجه، فإننا نحصل على قوتين التقيتا لتحقيق الهدف نفسه: ألا وهو إضعافُ الثقة في العقل، والدعوة إلى التعويل على مصادر أخرى كانت العقلانية الكلاسيكية والنقدية تقصيها وتقلل من شأنها.
أما معاداة الأنوار ، (بغض النظر عن الاختلاف في الدلالة بين التركيبين الانجليزي والفرنسي، وبغض النظر عن كون التسمية قد ظهرت في فترة متأخرة مقارنة بعبارة معاداة الفلسفة) فهي الأخرى نزعة تعود إلى القرن الثامن عشر وتشترك مع نزعة معاداة الفلسفة في مناهضة خطاب الأنوار. ولكنها مثلما بين ذلك كلّ من « إشعيا برلين »
(Isaiah Berlin, À contre-courant, essais sur l’histoire des idées, trad. de l’angl. par André Berelowitch, Paris, Albin Michel, 1988, « Les Contre-Lumières ». )
ثم « زاييف ستارنهال »،
((Zeev Sternhell, Les Anti-Lumières : du XVIIe siècle à la guerre froide, Fayard, Collection « l’espace du politique » (ISBN 2213623953))
تتعلق بتيارات فلسفية قامت من داخل الحقل الفلسفيّ لمواجهة خطاب الأنوار الكانطي وامتداداته السياسية والاجتماعية في الثورة الفرنسية. يتعلق الأمر بخط فكريّ قام منذ « جيامباتيستا فيكو » مرورا بـ »هاردر » و »ادموند بورك » وصولا إلى المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، « في مواجهة تصوّر جديد للإنسان والتاريخ والمجتمع، وضد نظريات المعرفة الجديدة » التي نشأت منذ « ديكارت » وتكاملت مع « كانط » خاصة.
ما لا يريد أعداءُ التنوير الإقرار به اليوم، هو أنّ عقلانية الأنوار هي التي شكلت الأساس للقيم الكونية التي ما زالت تمثل مطلبا للأفراد وللشعوب في العالم المعاصر رغم كل التطورات التي شهدها الفكرُ الفلسفي بعد « كانط » والثورة الفرنسية. ذلك هو ما دفع « وليام باريت » في مقال حول الليبرالية سنة 1949
(« What is the Liberal Mind ? « , Partisan Review, no 3, mars 1949, p. 331-336)
إلى المناداة بالعودة إلى الأنوار في مواجهة صعود الفكر الرجعيِّ المحافظ في الولايات المتحدة. وفي رده على « تريلينغ »Triling الذي دعا إلى الاعتراف بقيمة الفكر المعادي للأنوار، يقر « باريت » بأهمية هذا الإرثِ وعمقه، ولكنه يؤكد على أننا إذا طرحنا مسألة الأنوار ومعاداة الأنوار، وجب علينا أنْ نرجّحَ في النهاية كفة الأنوار: إذ أيّ عالم يمكننا تصوره يتم فيه قهر الفرد باسم الجماعة، ويسود فيه منطق الإقصاء العنصري والديني ورفض القيم العقلانية الكونية باسم المحافظة على قيم الثقافة التقليدية؟ في هذا الأفق ترتسم أمامنا عناوين المشروع الضخم للعقلانية التواصلية لدى « يورغن هابرماز » ، إذ أن راهنية الأنوار تستمدّ مشروعيتها دائما من كونها ارتكزت على تصور لا-وثوقي للعقل.