في الصورة: الروائية كوليت التي شكلت ظاهرة فريدة في فرنسا (وثائق كوليت)

مقال لـلكاتبة اللبنانية مارلين كنعان

المصدر : أندبندت العربية (الرابط: أسفل المقال)

يتواصل الاحتفال في الأوساط الأدبية الفرنسية بمرور 150 سنة على ولادة سيدة الادب الفرنسي، الروائية والصحافية والممثلة والراقصة الاستعراضية كوليت منذ الثامن والعشرين من شهر يناير (كانون الثاني) الماضي. وتُوجت هذه المناسبة بندوات وإصدارات عدة، لعل أهمها إعادة مؤسسة « لي كاييه دو ليرن » » Les Cahiers de l’Herne  نشر العدد الذي خصصته سنة 2011 عن كوليت،  الذي تناول بالشرح والتحليل أعمالها ومسيرتها وتجربتها الفريدة. وقد تضمن إلى جانب الدراسات المهمة التي أعدت تحت إشراف فريديريك ماج وجيرار بونال، مجموعةً من النصوص عن العاصمة الفرنسية، وضعتها الكاتبة في مراحل مختلفة من حياتها، نشرت تحت عنوان « باريس أحبك ». وكذلك فعلت جريدة « لوموند » إذ أصدرت عدداً خاصاً أشبه بكتاب، بعنوان « حياة ومؤلفات، كوليت دوامة الحياة »، أسهم في تحريره كل من جوليا كريستيفا وآميلي نوتومب وجولييت وإيمانويل لامبرت وغيرهن إلى جانب نشر مختارات من كتاباتها.

كشفت هذه الدراسات والمقالات والمقابلات مع المتخصصين بأدب كوليت عن ثراء أعمالها وعمقها، فضلاً عن شخصيتها « الحداثاوية » السابقة لعصرها وأنثويتها الطافحة وحسها الجمالي. واختيرت بعض رواياتها ونصوصها، لا سيما السيرة الذاتية « سيدو »، اسم دلع والدتها، التي استرجعت فيها الكاتبة ذكريات طفولتها في بيت العائلة، لتدخل في المناهج التعليمية لصفوف البكالوريا الفرنسية، إلى جانب الإعلان عن عدد من اللقاءات والدراسات الأدبية التي تتناول مؤلفاتها في الصحافة الثقافية

كوليت بعدسة الفنان الراحل هنري مانويل (وثائق كوليت)

ولدت سيدوني غابرييل كوليت في 28 يناير (كانون الثاني) 1873 في مقاطعة اليون المتاخمة لإقليم البورغوني الفرنسي وتوفيت في باريس سنة 1954، مما يعني أنها عاشت إحدى وثمانين سنة، كانت بمعظمها صاخبة ومفعمة بالعطاء والأحداث. وقد تحدثت عن المنطقة التي ولدت فيها، وعن أماكنها وكرومها وأشجارها العزيزة على قلبها في كتابها الأول الذي نشرته سنة 1900 « كلودين في المدرسة »، وخصصت فصلاً كاملاً عنها في كتابها الأخير » في بلد معروف » الصادر سنة 1950.

Sidonie-Gabrielle Colette dite Colette est une femme de lettres, actrice et journaliste française, née le 28 janvier 1873 à Saint-Sauveur-en-Puisaye (Yonne) et morte le 3 août 1954 à Paris.

Elle est l’une des plus célèbres romancières, aussi bien en France qu’à l’étranger, de la littérature française. Sa bisexualité, affirmée et revendiquée, occupe une large place dans sa vie et son œuvre. Deuxième femme à être élue membre de l’académie Goncourt en 1945 (après Judith Gautier en 1910), elle en devient la présidente entre 1949 et 1954. Elle est la première femme en France à recevoir des funérailles nationales.

الاولى والثانية

وكوليت هي ثاني امرأة تُنتخب عضواً في أكاديمية غونغور، وقد ترأستها بين الأعوام 1949-1954، وأول امرأة تنظم لها الجمهورية الفرنسية جنازة رسمية. بدأت تباشير موهبة كوليت الأدبية تلوح منذ طفولتها بعد أن أظهرت في تعاطيها مع الواقع ميلاً نحو الاستقلالية وحب الاستكشاف. وقد أدمنت قراءة المؤلفات الكلاسيكية في وقت مبكر جداً وتلقت دروساً في اللغة الفرنسية والأساليب الأدبية على والدها. وكان لظروف حياتها وطلاقها من زوجها الأول هنري غوتييه ڤيلار، المعروف في الوسط الأدبي والموسيقي باسمه المستعار ويللي، أثر كبير في أدبها.

Maison natale de Colette dans l’Yonne en Bourgogne, labellisée Maisons des Illustres.__المنزل الذي ولدت فيه كوليت في « الإييون » بمقاطعة البورغونييه، معروف باسم « منزل المشاهير »ـ »

كان ويللي هذا أنانياً، عرف عنه استغلاله لمجموعة من الكتاب وضعوا باسمه عدداً من النصوص. في بداية حياتهما الزوجية، بدأت كوليت تشعر بالملل. فما كان من ويللي إلا أن شجع زوجته العشرينية على الكتابة وعرفها على الحلقات الأدبية والموسيقية التي كان يرتادها. فبدأت بوضع روايات أربع، رأى الزوج أنها رائعة. غير أنه سرعان ما نشرها باسمه الخاص. حققت هذه الروايات نجاحاً مرموقاً واعتُبرت من بين الكتب الأكثر مبيعاً. لكن ويللي احتفظ بحقوق تأليفها ونشرها، حارماً كوليت من ثروة صغيرة. هكذا ولدت سلسلة روايات « كلودين » التي أحبها القراء وتابعوا مغامراتها بشغف.

الكاتبة الحرة والمتحررة (وثائق كوليت)

لم تقتصر خيانة ويللي على نتاج كوليت الأدبي، بل ترافقت مع خيانة زوجية لم تعبأ بشعور الزوجة وحبها، وهي شابة جميلة ورشيقة، لاحقها عدد كبير من الرجال.

بعد ثماني عشرة سنة من الزواج، لم تعد كوليت قادرة على احتمال هذا الاستغلال. فما كان منها إلا أن طلبت الطلاق، منتزعةً من طليقها اعترافاً بأنها هي التي كتبت الروايات.

بعد انفصالها عن ويللي نشرت كوليت باسمها رواية « الشريدة »، التي تروي قصة امرأة تدعى رينيه نيري، تعبت من خيانات زوجها المتكررة التي قادتها نحو الطلاق. وحتى تتمكن من تأمين متطلبات عيشها، لجأت إلى العمل كراقصة وممثلة إيمائية، وشاءت ظروف حياتها أن تتعرف إلى رجل ثري أغرم بها يدعى مكسيم. لكن ذكريات زواجها الأول المؤلمة ظلت تلاحقها، فكيف السبيل إلى التخلص من فشل التجربة الماضية والانفتاح على فيض الحب المتدفق كالشلال؟ لكن رينيه نيري سرعان ما تنبهت إلى أن مكسيم لا يختلف عن زوجها السابق، حين يعبر من دون قصد، عن نزوعه إلى الهيمنة داخل حياة الثنائي. هنا، في ضوء التشابه بين الرجلين، تغرق رينيه في ذكرياتها وتكتشف بالمقارنة، أن مكسيم لن يكون أفضل من زوجها الأول. فتقرر العودة إلى وحدتها لتشارك في جولة فنية في مدن الأرياف، في محاولة منها لنسيان حكاية الحب الجديدة. فرينيه باتت مقتنعة بأنه كتب عليها الهرب ليس من رجل، بل من كل الرجال.

زاوج ومسرح

رواية « بيت كلودين » (دار سوي)

هذه الرواية الغنية بتجربة كوليت الزوجية الأولى، تحدثت أيضاً عن المسرح وكواليسه وظروف العاملين فيه، ونضالهم من أجل البقاء على قيد الحياة، من خلال عمل صعب يؤمن حفنة من المال تقي شر التشرد والصعوبات الحياتية. وقد عملت كوليت بعد طلاقها سنة 1910، كممثلة إيمـاء في ملهى المولان روج بتشجيع من الإيمائي جورج واغ، وشاركت عارية في استعراض أثـار الاستنكـار.

شكلت الموضوعات المتشابكة التي تناولتها رواية « الشريدة » كالملذات الجسدية ورفض الحب وخيبة الأمل والحنين إلى الماضي والمسرح والصراع الداخلي والانتصار على الذات، التي ستتعمق كوليت في سبر أغوارها، بوصفها تيمات كتاباتها كلها. أغضبت هذه الروايات حين نشرها بعضاً ممن رأوا فيها نوعاً من الاستفزاز والخروج على العادات والتقاليد والنظم الفكرية، في حين شغف بها قراء آخرون، علماً أنه ظهر في متن بعضها كرواية « منزل كلودين » و »انبلاج النهار »، و »سيدو »، مدى الاهتمام الذي أولته المؤلفة للريف والبيت الذي نشأت فيه، وابتكارها شخصية الأم « سيدو » ذات البراءة الفطرية والقدرة الكبيرة على التفهم.

أثارت هذه الروايات التي تتحدث فيها كوليت عن نفسها وعن الحب والعلاقات غير الشرعية والوصال والانفصال والنزعة الذاتية، على رغم نجاح كاتبتها في وصف الأماكن والأصوات والروائح والأذواق والألوان، ردود فعل متناقضة بين القراء والنقاد، تراوحت بين الإعجاب الشديد أو الشعور بالرفض والاشمئزاز. ولئن كانت كوليت امرأة حرة، تحدت في حياتها قوانين المجتمع، وكتبت في رواياتها عن جوانب إنسانية تتعلق بحياة المرأة والرغبة الجسدية، لم يتجرأ أحد على تناولها من قبل، فإنها عاشت وتصرفت وكتبت وفقاً لقوانينها وقيمها الخاصة في فترة لم يكن فيها المجتمع قابلاً لكتابات تتجاوز الحدود في الكشف عن أحوال النساء وأحاسيسهن وعلاقاتهن الإروسية مع الرجال والنساء على حد سواء. عاشت كوليت بعد طلاقها لفترة في منزل الكاتبة والثرية الأميركية ناتالي كليفورد بارني، وارتبطت الاثنتان بعلاقة عاطفية. كما كانت، حسب جان-كلود بيكر واضع سيرة جوزفين بيكر على علاقة لفترة مع الممثلة والمغنية الاستعراضية، ومع ماتيلد دو مورني.

إخفاقات « الشريدة »

رواية « الطاهر والدنس » (دار سوي)

كانت إخفاقات كوليت العاطفية وشعورها بالضياع وراء كتابة روايتيها « الشريدة » و »الجانب الآخر للميوزيك-هول » اللتين نشرتهما قبل الحرب العالمية الأولى. ثم أتبعتهما بمجموعة من الروايات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر « عطفة الكرمة » و »العزوف العاطفي ». وقد شاءت الصدف أن تتعرف على الصحافي والدبلوماسي والسياسي الفرنسي هنري دي جوفنيل، رئيس تحرير صحيفة « الصباح »Le matin، الذي طلب منها كتابة عمود أسبوعي في الجريدة الفرنسية، ولكن من غير أن تتحدث فيه عن الحب والعلاقات غير الشرعية. وقد تابعت كوليت في مقالاتها الصحافية بعض القضايا القضائية وكتبت تحقيقات ميدانية تناولت مواضيع أدبية وتاريخية وحربية مختلفة.

في هذه المرحلة من حياتها، نشرت كوليت مجموعة من المؤلفـات الأدبية وهي « الساعات الطوال » و »وسط الحشود » و »مغامرات يومية » و »سجون وجنات وقطط » وغيرها من الروايات.أما تعاون كوليت مع هنري دو جوفينيل فقد أفضى إلى زواجهما وإنجابها ابنتها الوحيدة كوليت دو جوفينيل سنة 1913، التي أطلقت عليها بالبروفنسالية تحبباً لقب « الزقزقة الجميلة »، علماً أن كوليت لم تهتم بابنتها الصغيرة لانشغالها بحياتها المهنية. غير أنها عبرت في بعض نصوصها عن أرقى عواطف الأمومة.

هذا الزواج لم يدم طويلاً. فكوليت التي اكتشفت خيانة زوجها، أصبحت عشيقة ابنه برتران البالغ من العمر آنذاك ست عشرة سنة. دامت هذه العلاقة لسنوات بعد أن ألهمت بعض كتاباتها. وها هي تنتقم من زوجها هذا بعد طلاقها من خلال استعادة علاقتهما في رواية بعنوان « جولي دو كارنيلهان »، وقد نشرتها أولاً على حلقات إبان الاحتلال النازي. في هذه الرواية عبرت الكاتبة ببراعة عن الجشع وتباهت بالخطيئة، حاكيةً تفاصيل بعض علاقاتها، مما جعل كتابتها الفاضحة والذاتية عرضة للنقد اللاذع.

لم يمنع الارتباطان الفاشلان كوليت من الزواج للمرة الثالثة سنة 1924 من تاجر لؤلؤ يصغرها بـستة عشر عاماً يدعى موريس غودوكيت. وقد كانت كوليت دائمة القلق على زوجها، تخشى أن يقبض عليه من قبل النازيين. فقضى كثيراً من سنوات الحرب مختبئاً.

كانت كوليت من أوائل النساء اللواتي ركبن منطاداً وأجرين عملية تجميل للوجه، واعتمدن تسريحة شعر جريئة وتزين بزي الرجال. لم يوقفها أي نقد عن متابعة أفعالها وكتاباتها. ولعل حياتها الصاخبة وسردياتها الجريئة هي التي دفعت سيمون دو بوفوار إلى الاعتراف بأن كوليت هي الكاتبة الوحيدة العظيمة في فرنسا، وبأنها امرأة وراقصة وممثلة جميلة، عاشت حياة صاخبة وكتبت روايات تميزت بقوة حبكتها الأدبية وبتحليلها الدقيق للطبائع والأهواء. وقد نجحت الكاتبة في وصف المرأة وأحاسيسها، وفي دقة تحليل شخصيات رواياتها الحداثوية انطلاقاً من تأثرها بكتابات مارسيل بروست الذي كانت تكن لـه المودة والإعجاب.

هذه هي الحداثة التي شاءت الدراسات الجديدة التي تناولت نتاج كوليت إبرازها في ذكرى مولدها، عبر مراجعة بعض رواياتها، وعبر التساؤل عن الراديكالية التي أظهرتها هذه الكاتبة الحرة في اختيار موضوعاتها، أو في موقفها المتعلق بالنسوية، التي أثبتت بعض الأعمال والنصوص أن نسويتها ليست نسوية نضالية نظرية، بل نسوية يومية تأسيسية، انتقدت وقاومت على طريقتها النظام البطريركي بجميع مظاهره. وقد أسهمت الدراسات الجندرية القادمة من الولايات المتحدة الأميركية في فهم أعمق لحياة كوليت وكتاباتها، مما سمح باستجواب التمثلات الكلاسيكية للمذكر والمؤنث في كتاباتها.

في نهاية الأمر لم تكن كوليت مجرد ظاهرة شغلت في زمنها المجتمع بعد أن تربعت على عرش الأدب النسائي الفرنسي، بل كانت أديبة حقيقية جريئة ظلت رواياتها ونصوصها مصدراً للتفكر والنقاش.

ولئن كانت من أكثر الكاتبات الفرنسيات شهرة، وبطلة عدد لا بأس به من الفضائح، كتلك التي ارتبطت بظهورها عارية وبعلاقاتها الجنسية المتحررة مع الرجال والنساء، فإن فضائحيتها لم تمنع فرنسا من احترامها ومن متابعة نشاطها الأدبي، هي التي كتبت عشرات الروايات، بعد أن استقت معظم موضوعاتها من حياتها الخاصة. ولعل أدب كوليت النسائي بامتياز، قد حاول التوغل في أعماق المرأة والدفاع عن الحريات الفردية والخيارات الحياتية، مقدماً لنا ظاهرة خاصة في المشهد الأدبي الفرنسي. وسارت على خطاها في ما بعد، كاتبات كثيرات على رأسهن فرانسواز ساغان.

ترجمت بعض أعمال كوليت إلى عدة لغات، وتبوأت كتاباتها كامرأة متحررة، مركز الصدارة في المناداة باحترام المرأة واحترام خياراتها. وما زالت هذه الكتابات بالنسبة إلى لكثيرين من القراء، منبعاً للإلهام. وعليه فإن قراءة أعمال كوليت هي نوع من الغوص في عالم من الأحاسيس والتوهجات المنسية ودعوة لتذوق جمال الكلمات التي تشربتها الكاتبة حتى الثمالة.

https://www.independentarabia.com/node/418641/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/%D9%83%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%AA-%D8%B3%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A-%D8%B1%D9%82%D8%B5%D8%AA-%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%86-%D8%B1%D9%88%D8%AC?utm_term=Autofeed&utm_medium=Social&utm_source=Facebook&fbclid=IwAR1cWydJfe8iZFlLmeU3ZE7s9QhJCyuJKljPFG9dUbwupnO80Mpb2IFeRnA#Echobox=1675534892

.