كاترين كنسلار

ترجمة محمد عادل مطيمط

الجزء الثاني

   عندما نُلقن أطفالنا شكلاً مُبسّطًا وغير نقديٍّ من التسامح، بهدف جعلهم يتصوّرون أن كل الآراء محترمة وأنّه بإمكان المرء أن يُفكّر مثلما يشاء، فإنّه يُخشى من ذلك أن نُقحمهم في متناقضةِ شكٍّ ويقينٍ وفي تقديس للرأي من شأنه أن يُقْفلَ الباب أمام جدليّة الفكر حيث يكون المخرج الوحيد هو العنف. وفي مقابل ذلك يتخلّصُ الموقفُ اللائيكيُّ من متناقضة الشّك عبر انخراطه في الفضاء النقدي

Catherine Kintzler
كاترين كنسلار

الفراغ التجريبي وتصوّر المجتمع السياسي:

ترتكز هذه النتائج الخمسة على فكرة ناظمة تتمثل فيما عَنَيْتُهُ بعبارة ” فراغ تجريبي”. وهو فراغ اجتماعي  يعطينا وضعيّةً مَخْبَرِيّةً سياسيةً تقتضي الجَمْعَ بين كائناتٍ فرديّةٍ   نتصوّرُ أَنْ ليس لها أيّ دافع للاتحاد إلاّ الحفاظ على كياناتها الفرديّة، حيث يكون دافع انخراطها في المجتمع السياسي هو استقلالها الخاص بالنظر إلى كل أشكال الارتباط ، وليس اتحادا سابقا  يكون في شكل هباءات اجتماعية. فالأمر يتعلق بالعثور على ارتباط يجعل من الممكن القيام بالحدّ الأقصى من العزل لكل ذرّة مكونة له.

إذا أرجعنا السؤال إلى زاوية النظر السياسية، فسندرك أنه مَبْنِيٌّ على طريقة السؤال الذي طرحه “رسّو” بهدف تأسيس نظرية العقد الاجتماعي. ولكن يجب أن نُدقّقَ بالقول إنّ العَقد الاجتماعي ليس عَقدًا على وجه الدقة لأنّه لا يجمع بين أطراف قائمة مُسْبَقًا: بل هو يُشَكِّلُهَا بالتساوق في الوقت الذي يَتَشكّل فيه هُوَ نفسه وبواسطة صورته الخالصة. فإمكان ومتانة الاجتماع[1]  يرتكزان على ضمان قدرة كل متعاقد على أن يكفل لنفسه الحدّ الأقصى من المميزات الفرديّة. وبعبارة أخرى فإن العقد الاجتماعي هو شرط إمكان المتجول المتوحّد.[2]

أمّا إذا أرجعنا السؤال إلى زاوية المعالجة الصورية، فسندرك أن سؤال تجميع العناصر التي لا تجتمع إلا بفضل صيغة تضمن القدر الأقصى من التغاير،  هو سؤال الفئات المُفارِقيّة

Classes paradoxales  

التي قدّمَ عنها “جون كلود ملنار”  مؤخّرا نظرية مقنعة في الأسماء الغامضة

Les Noms indistincts .[3]

فبناء جمهورية معناه أن ينخرط المرء باعتباره مواطنا في نظام فئة مُفارِقية. ونرى هنا أن ما يعرف بمسألة الأقليات الثقافية تخترق هذا الحقل ويمكن أن تُطرَحَ بطريقتين متعارضتين.  إمّا أن يتمّ ترك الأمر لصمت القانون مثلما هي الحال في اجتماعٍ مفارقيٍّ: هنا تتشكّل الأقليات بفضل تطبيق مبدأ صرف النظر  الذي يُبيح كلّ ما لا يضرّ ضررا مباشرا بذلك الاجتماع.  ولكنها لا تتمتع في هذه الحال بأي اعتراف سياسي ( رغم كونها تتمتع بوضع قانوني) لأنّها ليست مشاركة بصفتها تلك في تشكيل الاجتماع. وإمّا أن الأقليّات تتشكّل بمثابة شريك ذي مشروعيّة وبصفتها تلك، في تشكيل القاعدة المشتركة. هذان نموذجان سياسيان كان “جون كلود ملنار” قد حدد ملامحهما النظرية بوضوح كبير في مقاله “السلطات من نموذج إلى آخر

Les Pouvoir d’un modèle à l’autre “

المنشور في مجلة

 Elucidation [4] ،

 وهو المقال الذي أَعْتبِرُهُ بمثابة أفضل طرح فكري سياسي معاصر[5].

وإذا أخذنا سؤال الانخراط في نظام الفئة المفارقية على مقاس المواطن، فإنّه بالإمكان صياغته كالتالي: في مدينة لائيكية لا تكون القضية القائلة ” لست مثل بقيّة أفراد المجتمع”  مُمْكنةً فقط، بل يجب اعتبارها أساسا للاجتماع. “فبدخولي في هذا الاجتماع أَطلبُ منكم أن تضمنوا لي قدرتي على ألاّ أكون مثل ما يكون الآخرون، بشرط أن أَحترم القوانين، أَعني تلك القوانين التي ليس لها من هدف أخير سوى أن تضمن لي هذا الحق”[6].

اللائيكية في المدرسة:

هناك نتيجةٌ سادسةٌ تقود إلى التصور الفرعي للّائيكيّة في المدرسة.

فالفضاء المؤسس  للحق وكذلك فضاؤه المنتج له لهما نفس مجال انطباق مبدأ اللائيكية. لا يتعلق الأمر فقط بالقول إنّ هذا المبدأ متلازم جوهريا معهما، بل بالقول أيضا إنه ينطبق فيهما انطباق القاعدة . يعبّر ذلك عن نفسه في شكل قيام السلطة العمومية بالإعراض عن، بالصمت، بغضّ النظر عن، أو بالتحفظ فيما يتعلّق بالدين أو بانعدام المعتقد. وهذه النتيجة هي ما تنتظم بحسبه المدرسة العمومية الأساسية والثانوية.

من السهل أن نفهم كيف ينطبق مبدأ التحفّظ على المُدرّسين باعتبارهم موظّفي الدولة. ولكن المشكل يُطرح عندما نتساءل حول وجوب انطباقه على التلاميذ. أي أنّ السؤال يُطرحَ حول ما إذا كانت العلاقة مدرس-تلميذ تشبه العلاقة بين العامل والإداري، أو بين الشرطي والمواطن الخ.، أو حول ما إذا كانت المدرسة تمثل قطاع خدمات عمومية.

إن تطبيق اللائيكية على الفضاء المدرسي بشكل تام (وهو ما يعني أن التلاميذ أيضا مطالبون بالتحفظ ) معناه أن نتبنّى فكرة أن المدرسة لا تنتمي إلى الفضاء المدني، وأن العلاقة بين المدرس والتلميذ ليست شبيهة بعلاقة المستهلك بمُزَوّد الخدمات العمومية. ويعني هذا الاستدلال أن التلاميذ الحاضرين في المدرسة لا يمثلون حرّيات قائمة الذات ( مثلما هي حال المواطنين في الفضاء المدني) ولكنهم يمثلون حرّيات في طور التشكّل وأنّ المدرسة هي مُؤسسةٌ مُنتجةٌ للحرّيات: لا يذهب التلميذ إليها بغرض الاستهلاك ولا حتى من أجل التمتّع بحقوقها ولكن من أجل أن يبني نفسه باعتباره ذاتا.

نستطيع القول إن المدرسة وهي مُتَصَوَّرَةٌ بهذا الوجه، تمثل جزء من الفضاء المنتج للحق، ليس بمعنى فضاء مُشرّع ولكن بمعنى أكثر أصالة: هو معنى كونها فضاءً مُؤسِّسًا يجعل الفكرَ الحقوقيّ وكذلك وعي الفرد بذاته مُمْكِنان، إنها تسعى من أجل جعل تعايش  الحرّيات حقيقة قائمة. وبهذا المعنى ليست المدرسة مُؤسّسَةَ حقوقٍ فقط، بل هي مُؤسّسةٌ فلسفيّةٌ. يُنْشِأُ المرءُ في هذه المؤسسة معرفته بالمبادئ بواسطة العقل والتجربة بهدف اكتساب القوة والقدرة اللّتان تجعلانه سيّد أفكاره وأفعاله، فيستغني بذلك عن كلّ سلطة متعالية. ويتحقق هذا التملّك الحرج للسلطة لدى كل فرد عبر التفافٍ يتمثل في التخلّص من القوى التي تُعيق اكتساب الاستقلالية والتي تفْرضُ نفسها على الوعي باعتبارها مسلّمات: أي الآراء السائدة ومطلب التأقلم والمعطيات الاجتماعية. هذا الالتفاف ليس شيئا آخر سوى تلك المعارف المكوّنة للموسوعة الإنسانية. ومن المؤكد أن هذه الموسوعة تشمل الأديان، ولكن بما هي ميثيولوجيا وأفكار  وليس بما هي معتقدات أو مادة للنسيج الاجتماعي.

لا يحصل المرء على المعرفة التي يكتسبها في المدرسة مثلما يحصل على وثيقة في شباك خدمات إدارية. فالطبيعة النقدية لهذه المعرفة تتأتّى من البناء الذاتي لسلطة الذات على نفسها-. إنها صورة عينيّة للحرّية.

يتطلب ذلك لحظة من الاستقالة يشتغل خلالها التأمّل الجاد، الذي هو عبارة عن ضرب من الانقطاع  يشترك فيه الصغار والكبار. إنها اللحظةُ التي تتجلى فيها الحرية في أبهى صورها: إنها اللحظة التي يُحقّق فيها الطفل الفهمَ بعد أن يكون قد أخطأ وبعد أن يكون قد تحرّر من اليقين المزيّف: بعد أن يدرك لماذا يكون حاصل جمع اثنان مع اثنان أربعة وكيف يتم استخدام الباقي  في عملية الطرح، أو متى لا تتفق صيغة الماضي في اللغة الفرنسية مع موضوعها، أو لماذا تنقسم السنة إلى فصول. إنّها اللحظة التي يمارس فيها تجربة الحرّية أو تجربة سيادته المطلقة على ذاته. فلا شيء ولا أحد  يُمْلِيَانِ عليه أفكاره. وفي الوقت نفسه، أي في صميم هذا الانفصال الجذري، يرى أن الآخر الذي هو شبيهه  (وليس قريبه ) هو ذلك الذي يكون قادرا مثله على القيام بهذه العملية: إنه تلك الذاتية الحرّة. ثمّ إنّ هذا الآخر يتنزّل خارج نطاق “ثُلّةِ أصدقائه “. فوراء كل فريق أو تجمّع واقعيّ، تتشكل الإنسانية  مع تشكل فكرة جمهور الآداب.   

مسار َتشَكُّلِ الحقيقةِ المسكون بِحَيْرَةٍ وتَسَاؤُلٍ دائمين، وتأسيس الذات لنفسها بنفسها في الانقسام وفي المراجعة الفكرية، ثمّ هذه القدرة على أن يغضب المرء من نفسه، يمكننا أن نستحضر تقليدا فلسفيا بأكمله لفهم هذه التجربة المحايثة والهشّة للحرّية [7] . ولكن لا أحد ربطها بالبراديغم  المدرسي أفضل من “غاستون باشلار”  في نظرية بسيكولوجيا المعرفة، أي في تصوره لبسيكوكولوجيا مُخَلُّصَةٍ من البيسكولوجيا [8]

 Psychologie dépsychologisée.

 متناقضة الشّك وجَدليّتِهِ:

يفتح مفهوم الموقف النقدي الذي تعرّضنا له المجال للذهاب أبعد من ذلك كي نتوقف هنا للتفكير في موضوع العلاقة بين اللائيكية والدراسات الإنسانية.

وأعني بالموقف النقدي موقفا يعتبر الفكرَ نفسه بمثابة قوّةٍ منتجةٍ وليس فقط بمثابة ملكةِ تنظيمٍ: ليست الأفكار أشياءَ أو حالاتٍ، ولكنّها قوًى حقيقيةً تنتظر التجسيدَ. ولكون الفكرِ يُمثّلُ مجالاً للإنتاج  فإنه يتجلّى لنفسه انعكاسيًّا، إنه يدرك نفسه بنفسه ويكتشف هشاشته الخاصة في هذه العملية المُحايثَة.ِ

لا تتشكل المعرفة أبدا بطريقةٍ مَرِنَةٍ وبسيطة: فلا يكفي المرء أن يتعلّم حتّى يَعْرِفَ. إنها تَفْتَرضُ القطيعةَ. مثال ذلك أننا لا نعرف قاعدةً نحويةً معرفة حقيقية قبل أن نكون قد طبّقناها بطريقة خاطئة. فلحظة عدم المطابقة  أو عدم الفهم هي ما سيجعلني أفهمها بحق وبالتالي أتذكرها. وبهذا الوجه فإن المرء يَفْهَمُ عندما يَفْهَمُ لماذا لمْ يَفْهَمْ.

هذه التجربة مُنِيرَةٌ  وصادِمَةٌ في الوقت نفسه، لأننا نخرج من تمثل تناقضي للحقيقة إلى تمثل نقدي لها . ولنختصر هذا الالتفاف عبر التأكيد على الصلة بين الموقف النقدي والشك المؤدّي إلى اليقين.

تعترضنا مسألة التسامح من خلال الشك. ألَيْسَ معنى كَوْنِ المرءِ متسامحًا أنّه يمارسُ الشكَّ عبر انفتاحه على تعدد الآراء؟ هذا مؤكّد، ولكن بأي ضرب من الشكّ يتعلّقُ الأمْرُ هنا؟

يُمَكِّنُنَا هذا الالتفاف من التمييز بين طريقتين للشك: الشكُّ المُتَقَلِّبُ الذي ينقسم هو نفسه إلى نَمَطَيْنِ، ثم  الشكّ المُتَجَاوِزُ[9] أو الشّكّ النّقديُّ.

مُتناقِضةُ الشّكّ، الشّكُّ المتقلِّبُ :

يعني الشكّ المتقلّب، مثلما يدلّ على ذلك الاسم، لحظةَ اضطرابٍ يتردّد المرءُ فيها بين مواقفٍ متعدّدةٍ. وتمثل هذه الصورة الطبيعية للشك  شكّا ظنّيا. فرغم تعرّض هذا الشكّ للصدمة النقدية، فإنّه لا يُوافق على الارتقاء بنفسه إلى مستوى الموقف النقدي: إنّه يتعرّض للأزمة دون أن  يستوْعبها، ويظلّ مُنْكَمِشًا على نفسه في ضرب من الحنين إلى اللحظة ما قبل النقدية.

وبالفعل، فإن الشّكَّ المُتقلّبَ في هذه الصورة الأولى لا يشكّ في وجود”موقفٍ حسنٍ ”  في مكانٍ ما يُمكنه أن يُعِيدَ للوعي المباشر طمأنينته. فلا يتجلّى الحقُّ بالنسبة إليه إلاّ في صورة تَخَارُجِيَّةٍ ، وليس بمثابة شيء تُنْتِجُهُ حركةُ الشّكّ [الداخلية]، أي حركةُ السّلْبِ أو حركة الخطأ، وبالتالي فإن الحق لا يتجلّى إلا في صورة انعكاسية .

إن الاستدعاء الساذج للظّن الصادق الذي يعيد بناء حالة ما قبل نقدية، يجعل من الفكر مجرّد قدرةٍ على التعرّفِ على الخطأ والصواب وليس قدرةً على التَّشْكِيلِ الجَدَلِيِّ للحقيقة والخطأ[10] . وتُمثّلُ هذه الصورةُ الساذجةُ ما يمكنني أن أُسمّيه  أطروحةَ مُتناقِضَةِ الشّكِّ: حيث “يجب على المرء أن يُؤْمنَ بوجود حقيقةٍ معطاةٍ”. وهو ما يعني أنه يتمّ تصعيد الأزمة بشكل تراجعي.

ولكنّ الشّكّ المتقلّب يقود إلى صورة ثانية، ألا وهي الأطروحة المضادّة لمتناقضة الشّك: حيث “لا شيء يمكن تصديقه، وحيث تكون كلّ المعتقدات متكافئة، وكلّ شيء نسبيّ”. إنّها الفكرةُ المتأتية أيضًا من الصدمة النّقدية، والتي بموجبها  لا تصلُ الأزمةُ  إلى حلّ ولا تفضي إلى شيء ملموسٍ: فلا وجود لأيّ موقفٍ صالحٍ خارجَ نطاقِ التقلّبِ نفسه. وبما أنّ الطمأنينة ما قبل النقدية قد تمّت إزاحتها نهائيا، فإنّ المرءَ يستقرُّ في الأزمة مُعلنا بذلك أن لا شيء ثابتٌ. من زاوية النظر هذه ” كل الآراء تتكافأ” ويمكن للمرء أن يفكّر على هواه. وبطبيعة الحال نكتشف هنا الميزولوجيا [11]، أي كراهية الاستدلال وكراهية الفكر. كل شخص يفكر مثلما يحلو له، وهناك حق مطلق للمرء في التقوقع على ما يفكر فيه. ممّا يعني أنه قد تمّ بناء الأزمة بشكل ستاتيكي.

من بين هذين الصنفين من الشّك المُتقلب، وكِلاهُما عنيفٌ[12]،  يستطيع الثاني أن يتقمص شكل التسامح، ولكنهما في حقيقة الأمر متماثلان   وتوأمان  يَتنزّلانِ في نفس الحقل اللاّنقدي، إذ يستقرّ الشّك المُتقلبُ على واحدة من بين لحظتي الأزمة ليُحوّلَها إلى لحظة متناقضة  :فإما أن يوجد يقينٌ دون شكٍّ، أو أن يوجدَ شكٌّ دون يقينٍ.

جدلية الشك، الشّكّ المُتجاوز:

يتجاوز الشّكُّ المُتَجاوِزُ أو الشّك السقراطيّ نقيض الأطروحة ويتصوّر اليقينَ باعتباره متشكّلا بواسطة مسار النقد وليس باعتباره شيئا يُعطى جاهزا. كان “آلان” قد قال عن “ديكارت” “إنّه لم يكن لِيَشُكَّ لو لمْ يكن بنفس القدر على يقين”[13]. يتحكّم هذا الشكّ في المعرفة ويجعل من انعدام الفهم، أي من لحظة الغموض والغرابة، بمعنى لحظة السلب، مفتاح المعقولية في حد ذاته. يجب أن نشك في أن تكون زاويتان متعارضتان عبر القمة متساويتان، حتى نتمكّن من تصوّر تساويهما: وليس هذا خارجيا بالنظر إلى الفكر في شيء، إنه الفكر نفسه وقد انفتح متحاورا مع نفسه[14]، وقد انقسم حتى يدرك نفسه أكثر.

    في مواجهة ثقافة تعاني من التناقض المنطقي للأزمة، يبني الشكُّ المتجاوزُ ثقافة تصاعدية وجدلية للأزمة: فالمعرفة ممكنة على وجه الدقة بفضل القطيعة وبفضل الشك المفتوح بفعل الأزمة.

ولكن الاستخدام الدارج للفظ تسامح اليوم يُحيل إلى متناقضة الشك واليقين. وهذا الاستخدام المبتذل ليس دون صلة بتكوين مفهوم التسامح مثلما سعيت إلى وصفه في الجزء الأول من هذا العرض. فوراء الرّهان القانوني والسياسي يوجد رهان تربوي متعلق بتكوين الفكر.

   عندما نُلقن أطفالنا شكلاً مُبسّطًا وغير نقديٍّ من التسامح، بهدف جعلهم يتصوّرون أن كل الآراء محترمة وأنّه بإمكان المرء أن يُفكّر مثلما يشاء[15]، فإنّه يُخشى من ذلك أن نُقحمهم في متناقضةِ شكٍّ ويقينٍ وفي تقديس للرأي من شأنه أن يُقْفلَ الباب أمام جدليّة الفكر حيث يكون المخرج الوحيد هو العنف. وفي مقابل ذلك يتخلّصُ الموقفُ اللائيكيُّ من متناقضة الشّك عبر انخراطه في الفضاء النقدي

   عندما نُلقن أطفالنا شكلاً مُبسّطًا وغير نقديٍّ من التسامح، بهدف جعلهم يتصوّرون أن كل الآراء محترمة وأنّه بإمكان المرء أن يُفكّر مثلما يشاء[15]، فإنّه يُخشى من ذلك أن نُقحمهم في متناقضةِ شكٍّ ويقينٍ وفي تقديس للرأي من شأنه أن يُقْفلَ الباب أمام جدليّة الفكر حيث يكون المخرج الوحيد هو العنف. وفي مقابل ذلك يتخلّصُ الموقفُ اللائيكيُّ من متناقضة الشّك عبر انخراطه في الفضاء النقديّ: غير أنّ هذا الموقف مرتبط ارتباطا متينا بما نسميه ب الإنسانيات.

فلا تعني الإنسانيات بالمعنى الكلاسيكي للعبارة جملةً من الاختصاصات فقط، اختصاصات هي في حدّ ذاتها نقديّة، بل إنّها تعني خاصّة اتّخاذَ موقفٍ في مواجهة المعرفة القائمة : عندما يستوعبُ الفكرُ الآثارَ والتّاريخ، فإنّهُ لا يَحْصُلُ فقط على جملة من المواضيع، بل هو يُدرك نفسه باعتباره شرطًا لإنتاج تلك المواضيع. ذلك هو ما يجعل إدراج تعليم “الظواهر الدينية” في مقرّرات التدريس بمثابة انقلاب جذريّ في الموقف.