الجزء الأول

الكاتب: كاترين كنسلار

Catherine Kintzler

source: Archives de la philosophie du droit, 48, 2004, p. 43.56.

ترجمة: محمد عادل مطيمط

Résumé : La laïcité n’est ni un contrat ni un courant de pensée au sens ordinaire du terme, ni une « exception culturelle ». C’est un concept philosophique qui, à la différence de l’idée de tolérance, n’a pas pour objet de faire coexister les libertés telles qu’elles sont dans une société donnée, mais de construire un espace a priori qui soit la condition de possibilité d’une telle coexistence. On tente de montrer que ce concept fonctionne de façon analogue à une sorte de vide expérimental : il est possible de former une association politique sans s’appuyer sur des communautés préexistantes de sorte que le principe de dissolution du lien social soit constitutif du lien politique. Plus largement, le concept suppose une position critique qui engage une dialectique du doute et une conception des humanités. Enfin, la laïcité n’ayant pas de pire ennemi que la religion civile, on suggère que la sacralisation actuelle du lien social et plus généralement de la simple forme du religieux est une variante moderne de théologico-politique.

ملخّص: ليست اللاّئكية عقدا ولا تيّارا فكريا في المعنى المعتادِ للكلمة، بل إنها ليست ب »الاستثناء الثقافي ». إنها تصوّر فلسفي لا يهدف خلافا لفكرة التسامح إلى جعل الحرّيات تتعايش وفقا لصورتها المعطاة في مجتمع بِعَينه، ولكن إلى بناء فضاء  قبلي يكون شرط إمكان هذا التعايش. نحن نسعى إلى بيان أن هذا التصور يشتغل  بطريقة أشبه بضرب من الفراغ التجريبي: فمن الممكن تشكيل اجتماع سياسي دون الارتكاز على جماعات موجودة مسبقا، بوجه يجعل من مبدأ انحلال الرّابطة الاجتماعية عنصرا مكوّنا للرّابطة السياسية. وبصفة أشمل، يفترض هذا التصوّر موقفا نقديا يثير جدلية الشكّ وتصوّرا معينّا للدراسات الإنسانية. وفي النهاية، بما أنه ليس لللاّئكيّة من عدوّ أكثر شراسة من الدين المدني، فإننا نرى أن التقديس الحالي للرّابطة الاجتماعيّة، وبصفة أعمّ  لصورة الديني في حدّ ذاتها، يُمثّل صيغةً حديثةً للّاهوت-السياسي.

غالبا ما يُثَارُ السؤال حول « اللاّئكية[1] على الطريقة الفرنسية ». ولكن اللاّئكية ليست « نتاجا ثقافيا » ولا هي كذلك ب »الاستثناء ». إنها تصوّر نابع من تاريخ فكري ومن عمل فكريّ مختصّ دائما. صحيح أن علاقتها بالفكر الناطق بالفرنسية وثيقةٌ، ولكن ذلك مسألة عرضية. غير أنّ علاقتها بالفلسفة هي في المقابل علاقة جوهرية. فهذا التصور – أيّ اللاّئكية- ، مثلما أطمح إلى بيانه، هو تصوّرٌ نقديّ في حقيقته.

إذا كان الكلام عن « لائيكية على الطريقة الفرنسية » يتضمّن شيئًا من الوجاهة ، فذلك هو بالأحرى من أجل التذكير بنموذج كلاسيكي للّلائيكية.  فقد عرفت اللاّئكية في تاريخها ثلاثة لحظات مُكوّنة لماهيتها: الثورة الفرنسية، الجمهورية الثالثة وأخيرا المرحلة الحالية منذ أواسط الثمانينات. أمّا أنا فسأهْتمّ بهذه اللحظة الثالثة، باعتبارها الأكثر ثراء في نظري. فنحن نشهد فعلا إعادة إحياء للفكر اللائيكي بسبب معارضة وهجوم غير مسبوقين يَلْقَاهُمَا على جبهاتٍ ثلاثٍ: عبر المشاريع السياسية الغازية التي تُقَادُ باسم ديانة توحيدية، وعبر التّشكيكِ في النموذج السياسي الذي ترتبط به، وأخيرا عبر الهجمة العالمية لفكر منتشر سأسميه بالإسقاط الشكلي للديني

La projection formaliste du religieux  –

حيث نكتشف « هَوَسَ اللّاهوت السياسي »

La hantise du théologico-politique  

الذي يتمّ التطرّقُ إليه في هذا الملتقى.

اللاّئكية، مَفْهُومٌ مُؤَسِّسٌ:

تَصْدُرُ اللاّئكية عن آلية فكرية مختلفة جدّا عن نموذج التسامح المرتكز على تعايش الجماعات ، حيث يمكننا بناء العلاقات النظرية بين هذا النموذج واللاّئكية انطلاقا من نسق القضايا الثلاث التالية:

لا أحد مُجْبَرٌ على تَبَنِّي هذا الدين بدلاً من آخر

Personne n’est tenu d’avoir une religion plutôt qu’une autre.

لا أحد مُجْبَرٌ على أن يكون له دينٌ بدلاً مِنْ أَن لا يكون له أيّ دينٍ

Personne n’est tenu d’avoir une religion plutôt qu’aucune

لا أحد مُجْبَرٌ على ألّا يكون له أيّ دين

Personne n’est tenu de n’avoir aucune religion

يفترض هذا النّسقُ وجود قانونٍ مُشْتركٍ يُنَظّمُ تَعايُشَ الحرّيات. وينتج عن ذلك أنّ الأشياء المتعلقة بالاعتقاد الديني تظلُّ حكرًا على الحياة الخاصة: ليس من حق القانون أن يتدخّلَ لتنظيمِ هذا المجال ما لم يحصل تداخل مع القوانين العامّةِ. ويَصْدُقُ ذلك حتّى وإن كانت الدولةُ تمارسُ ديانةً رسميّةً. لقد تمّ طرح هذه النقطة من قِبَلِ « لوك » في الرّسالة حول التسامح وكذلك من قِبَلِ « بيار بايل ». وبشكلٍ عامٍّ نقول: ليس للقانون الحق على كلّ شيء وهو لا يستطيع أن يتكلم عن أيّ شيء.

ورغم ذلك، فإنّ التسامح غالبا ما يفشل في تحقيق هذا البرنامج لاقتصاره فقط على القضيّة الأولى من بين القضايا الثلاث المذكورة. وفي هذه الحالة نفترض أن الفكر السياسي لا يمكنه تَجنُّب العلاقة مع الظاهرة الدينية : ما يقع تصوره في الوضع العادي هو أن يكون للمرء دينا، أيًّا كان هذا الدين، حيث يتمثل التسامح في جعل أديان مختلفة تتعايش داخل نفس المجتمع السياسي.

نخن نمسّ هنا نقطةً ذات خطورة سياسية، ألا وهي نقطة اللّاتديّن [أو انعدام المعتقد ] ليست الخطورةُ هنا خطورةَ مضمونِ موقفٍ مَا، ولكنها خطورة شكل العلاقة بطريقة الاعتقاد  . وبالفعل فإنه في إطار تسامحٍ يَقْتَصِرُ على القضية الأولي يُمثّل اللّامتديّنون  مُشْكِلاً، إذ باعتبارهم لا يمثّلون جماعة ، فإنّهم سيُشكّلون تهديدا للرّابطة الاجتماعية ، وهو تحدٍّ قائم في وجه كلّ مجتمع يمكن تصوره. يبدو الأمر كما لو أنّ الرّابطة الدّينية هي النموذج [المثالي] للرّوابط. ولذلك يرى « لوك » أن انعدام المعتقد هو الرأي الوحيد الذي لا يمكن التسامح معه في مُجتَمعٍ مُتسامحٍ[.

 وبما أنّ القضية الثانية تعلن عن لحظة فراغ، فإننا نرى أنه من الممكن أن تُحْظَى بمكانة خاصة في هذه القائمة. فانعدام الاعتقاد ينحدر إلى الدرجة الصفر من الرّابطة الاجتماعيّة، حيث يتناسب مع ذلك سؤال هام: كيف يمكن لمن لا ينتمي إلى أيّة جماعة فعلية أن يلتحق بجماعة سياسية ؟  هل يمكننا أن نمرّ من الدرجة الصفر للرّابطة الاجتماعية – تلك الرّابطة الذي تُمثلُ الرّابطةُ الدّينيةُ نموذجها [الأمثل]– إلى الدرجة الصفر من الرّابطة السياسيّة؟ وفي عبارات كلاسيكية أكثر: هل يمكننا تشكيل مجتمع سياسيّ بمعزل عن أيّة مرجعية دينية، بما في ذلك المرجعية الدينية المدنية؟

يستطيع التسامح بطبيعة الحال أن يتّسعَ ليَشْمَلَ القضيةَ الثانيةَ – مثلما هو الأمر لدى « بايل » –  ولكنه بهذا الوجه لا يأخذ بعين الاعتبار الفراغ بما هو عنصر مكوّن، أي أنه لا يجعل منه فراغا تجريبيا : فهو يأخذه في صورة معطى خارجي وواقعي[ .

لقد أقرّ « بايل » إنّه بالإمكان قبول الملحدين في المجتمع السياسي لكونهم أكثر قابلية للتطويع من قبل السلطة السياسية نتيجة إنكارهم لكلّ سلطة متعالية. فهو يتطرق بشكل جيّد إلى مشكل حياة مدنية وسياسية لا تستند إلى تعالٍ ديني . ولكنه لا يضع هذه الفكرة بوضوح ضمن أسس المدينة .

لا يقوم نموذج التسامح على تصوّر حرّية مبدئية بل على تصوّر حرّيةً ترصيفيّةَ   تكون خاضعة للشروط العينية لممارستها. في هذا النموذج، يظلُّ الوجودُ الواقعيُّ للجماعات هو ما يؤسس تنظيم الحرّيات: مما يعني أن ضرورة الانتماء إلى جماعة متضَمَّنَةٌ في كل فكرة عن التسامح. وعندئذ يمكن لذلك السؤال الخطير أن يزداد دقّةً: هل يمكننا تشكيل مجتمع سياسي دون الاستناد إلى جماعات موجودة مسبقا، أي بصرف النظر عنها ؟

رغم أنه بإمكان اللاّئكية أن تقود إلى نتائج مشابهة، فإنها لا ترتكز حصريّا على التفكير عبر حساب القوى الموجودة ولكن عبر الإمكان القبلي . فقبْل كلّ شيْء، نحن نُلاحظ أنها لا تتلاءَمُ مع أيّ دين رسمي ، بما في ذلك الدين المدني.   غير أن الفارق الأساسي يتعلق بآليات التفكير: فمفهوم اللاّئكية يُجسِّدُ القضايا الثلاث بخلق فضاء قبلي يتجلّى بمثابة شرط إمكان اشتغالها. وبالتالي فإنّ مفهومُ الانتماءِ المُسْبَقِ[إلى جماعةٍ] هو مفهوم غريب عن اللاّئكية. لا يتمثل المشكل في جعل الناس أو الجماعات يعيشون وفق صورتهم المعطاة واقعيّا  ضمن مجتمعات بعينها، ولكن في جعل كل الحرّيات الممكن تصورها تتعايش عبر آليات ليست في حاجة لتسجيل وجودها الواقعي كي يتمّ تحفيزها: أي عبر آلية قانونية عمياء.

لا يتعلق الفكر السياسي المعني هنا إذن بتجميع جماعاتٍ واقعية ، ولكنّه فكر تعايشٍ ممكنٍ للحرّياتِ  حيث يكون لحقّ الفرد أسبقيةٌ دائما على حقّ الجماعة أيّا كانت. أي أن حرية الفرد في الدولة اللاّئكية تكون مضمونة قبليًّا حتى وإن لم يكن منتمٍ إلى جماعة، وحتّى وإن كان للجميع دين واحد لا غير. يجب أن نصل إلى هذا المستوى[من التجريد] لأننا نكتشف معه العملية المُؤسِّسَةِ للفراغ التجريبي وفائدة الاشتغال الأعمى للقانون،  حتى وإن كان هذا الفراغ غير موجود[].

هناك مثال تاريخي عن هذا الاشتغال الأعمى للقانون هو قانون 13 نوفمبر 1791 الخاص باليهود والذي تمّ إعداده على أساس الصيغة الشهيرة ل »كلارمون -تونّار » في الجمعية التأسيسية يوم 23 ديسمبر 1789 :

 » يجب أن نمنع كل شيء عن اليهود باعتبارهم أمّةً، ويجب أن نمنحهم كلّ شيء باعتبارهم أفرادا، يجب أن يكونوا مواطنين

Il faut tout refuser aux juifs en tant que nation ; il faut tout leur accorder comme individus ; il faut qu’ils soient citoyens »[]

هذه الصيغة التي يتم اليوم الاستشهاد بها  دون فهم واضح على أنّها تمثّل قمة الرّعب اليعقوبي ، هي على وجه الدقّة صيغة تحرّرية في العمق لكونها تطالب بوجوب صرف النظر []

 Un devoir d’aveuglement .

تُمكننا هذه المقاربة الأولى من استخلاص سلسلة من النتائج المفارِقِيّة :

  • ففي الحدّ الأقصى، لا يمكن لمجتمع ما إلاّ أن يكون متسامحا، وما من مجتمع يمكنه أن يكون لائيكيا إلاّ إذا كان مجتمعا سياسيا.
  • نقف من خلال ما سبق ذكره على أساس المجتمع السياسي باعتباره يُتَصَوَّرُ بمعزل عن أيّة مرجعية دينية وبمعزل عن أي استناد إلى رابطة اجتماعيّة أو جماعويّة. وندرك أنّ  الدّين المدنيٌ  يتناقض تماما مع اللاّئكية التي لا تتعارض مع الأديان إلاّ اذا ادّعت هذه الأديان فرض قوانينها.
  • وندرك هنا أيضا صورة المجتمع التي تسمح لكل فرد بأن يعيش داخل جماعة، ولكنها تسمح له أيضا بتغيير الجماعة أو كذلك بأن يكون في حلّ من الارتباط بأية جماعة : يعني ذلك أنّه لا يمكن إجبار المرء على الانتماء إلى جماعة. وهنا يتجلّى لنا مبدأ انحلال الرّابطة الاجتماعية بمثابة مبدأ مقوّم للرّابطة السياسية، فكل مبدأ آخر هو عنصر غير ضروري لتشكيل مدينة.
  • وبما أنّ اللاّئكية لا تفترض أطرافا ذات مصلحة تكون موجودة مسبقا، فلا وجود لشيء اسمه اتفاق  أو عقد لائيكي.
  • ثمّ إنّ اللاّئكية ليست تيارا فكريّا بالمعنى المعهود – فلا يمكننا أن نقول: « اللائيكيون » مثلما نقول « الكاثوليك ». أي أنّ التطرّف اللائيكي لا وجود له.