حميد زنازالأحد، 14 فبراير، 2016

روبير ميزراحي العائد إلى بيت الطاعة

المصدر

موقع جريدة العرب

https://www.google.com/amp/s/alarab.co.uk/%25D8%25B9%25D9%2586%25D8%25AF%25D9%2585%25D8%25A7-%25D9%258A%25D9%2581%25D9%2582%25D8%25AF-%25D8%25A7%25D9%2584%25D9%2581%25D9%2584%25D8%25A7%25D8%25B3%25D9%2581%25D8%25A9-%25D8%25B9%25D9%2582%25D9%2588%25D9%2584%25D9%2587%25D9%2585%3famp

روبير ميزراحي، من أشهر الفلاسفة المعاصرين الفرنسيين، هو من أهم المتخصصين في فلسفة سبينوزا، ومن أصل يهودي مثل سبينوزا. من أساتذة السوربون الذين يتمتعون بسمعة طيبة بين الأوساط الأكاديمية في فرنسا. دارت معظم أعماله حول الحرية والسعادة ونشر الكثير من الدراسات من بينها “الجسد والعقل في فلسفة سبينوزا” (1992)، “ما هي الحرية؟” (1998)، “مئة كلمة من أجل إرساء السعادة” (2004)، و”لآلئ وصخور، ترجمة ذاتية” (2012) وغيرها من المؤلفات الفلسفية والسياسية التي تناول فيها المسألة اليهودية عموما وظاهرة معاداة السامية بشكل أخص.

وفضلا عن ذلك كان ينشر مقالات في مجلة “العصور الحديثة” الشهيرة وجريدة “ليبراسيون” اليسارية وأسبوعية “النوفيل أوبسرفاتور” ذات الاتجاه اليساري أيضا. وقد نشر حتى في “شارلي إيبدو” الشهيرة عالميا اليوم بسبب الجريمة الشنعاء التي ارتكبها إرهابيون أصوليون ضد طاقمها الصحفي في بداية هذا العام.

تلك بطاقة سريعة لتقديم هذا الرجل المصنف كفيلسوف، ولا أبتغي من وراء ما يأتي أن أقدم أعمال الرجل ولا تحليل فلسفته وإنما أحاول اتخاذه كنموذج للعمى الفكري الذي يبتلى به بعض المفكرين أو الذين يعتبرون كذلك حينما يتعلق الأمر بموضوع يمسّهم أو يتعلق بمصالح بني قومهم.

وكثيرا ما يكتب الفلاسفة ما لا علاقة له بحياتهم الواقعية بل كثيرا ما تتناقض سلوكات الفيلسوف والبناء النظري الذي يمضي كل حياته في إرسائه والدفاع عنه. فالفيلسوف الحقيقي إذا ما صدقنا نيتشة هو من يستطيع أن يقدم لنا مثالا في الحياة، في حياته العملية، إذ لا مصداقية لمن يكتفي بالتنظير. ما جدوى بناء نظري محكم إذا كان صاحبه يعيش عكس ما وضع فيه من مبادئ وقيم وما يدعو إليه من أفكار؟ ما فائدة فلسفة لا تخرج صاحبها من قبيلته ولا تجعله يتعالى عن النظرة الشوفينية والانضمام الميكانيكي لأوهام قومه؟

مع روبير ميزراحي، نحن أمام رجل طلّق النزاهة ثلاثا وسقط سقوطا حرا في مانوية مضحكة كئيبة في تناوله للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي. وهو بالتالي لا يختلف رغم شهاداته العلمية العليا مع رجل بسيط يعيش في ريف من أرياف الجزائر أو اليمن والذي لا يرى في حل القضية الفلسطينية سوى رمي اليهود في البحر. لا زال أخي يقول لي ومنذ أن كنت مراهقا “يطيحوا فالبحر”، ليغرقوا في البحر! وهي عبارة جزائرية تعني هنا “لست معنيا بمصيرهم”، يجب أن يرحلوا وانتهى الأمر.. والتفكير!

ومن العجيب أن يذهب الفيلسوف السوربوني ميزراحي نفس المذهب في تعامله مع حقوق الشعب الفلسطيني، فدفاعه عن دولة إسرائيل هو دفاع مطلق وحق اليهود في إقامة دولتهم على أرض فلسطين لا نقاش فيه ولا يحق لأحد أن يتساءل في هذا الأمر الواقع وإلا عدّ من المعادين والحاقدين على اليهود.

هو موضوع محرّم لا ينبغي تناوله إلا من خلال نظرة إسرائيل الرسمية القائلة بأن لا حق للفلسطينيين على هذه الأرض، فاليهود هم أصحاب الأرض التاريخيون والشرعيون ولا مجال للحديث عن استعمار أو شيء من هذا القبيل يمارسه الإسرائيليون على الفلسطينيين لسبب بسيط، يقول السيد ميزراحي، هو أنه ليس هناك احتلال لأرض واستغلال واستعباد لسكانها الأصليين كما كان الشأن مع الاستعمار الفرنسي أو البريطاني، فالإسرائيليون هم سكان الأرض الأصليون ولا يستغلون ولا يضايقون أحدا! وقد ذهب حتى إلى تزوير تعريف الاستعمار كي لا ينطبق على إسرائيل “المُستعمِر هو الذي يملك ولا يعمل والمستعمَر هو الذي يعمل ولا يملك. وليس هذا هو الحاصل في إسرائيل، يقول، لأن الإسرائيلي يعمل ويملك والفلسطيني أيضا”، وهكذا يحل ميزراحي المشكلة من أساسها عن طريق اقتراح تعريف جديد للاستعمار يخلع عن إسرائيل صفة الدولة المستعمرة!
 
 
تخطيط: ساي سرحان
 

و بهذا تحول دارس سبينوزا إلى محام وظل يدافع عن هذا الضلال الفكري والتزوير التاريخي قرابة الستين عاما، منذ أول مقال نشره تحت عنوان “من المسألة اليهودية إلى وجود إسرائيل في العصور الحديثة”، المجلة الفلسفية الفرنسية الشهيرة الصادرة في شهر فبراير 1956!

كيف يمكن لفيلسوف أن يكتب دون أدنى تردد أن جوهر الجيش الإسرائيلي دفاعي بحت ومهمته الأساسية هي حماية الحديقة التي بناها الإسرائيليون في الصحراء والتي عجز العرب في إقامتها ويحاولون مجتمعين الاستحواذ عليها بعد أن وجدت. وفي الحقيقة لا يريدون استرداد أرض، حسب رأيه، وإنما يريدون القضاء على الشعب اليهودي بدافع الكره.
والعرب هم المسؤولون عن محنة اللاجئين الفلسطينيين إذ لم يطرد الإسرائيليون الفلسطينيين وإنما العرب هم الذين دفعوهم للمغادرة لأنهم محتاجون سياسيا إلى لاجئين ليقولوا للعالم أجمع: انظروا ما تفعل إسرائيل! فالمخيمات صناعة عربية إذن ولا يمكن أبدا حسب الفيلسوف الحديث عن عودة اللاجئين إلى إسرائيل لأنها ليست بلدهم وأنهم هم الذين باعوا ما كانوا يملكون من أراض مقابل أموال طائلة، وعليهم أن يستقروا في البلدان العربية المجاورة.

وبغض النظر عن كل هذا لا يمكن بأيّ حال من الأحوال، يقول، أن يعودوا لأنّ عودتهم تعني زوال إسرائيل حيث سيشكلون أغلبية في سنوات معدودات. وما على الفلسطينيين ومعهم كل العرب إلا قبول الأطروحة الإسرائيلية “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” إن رغبوا في السلم وإن لم يجنحوا للسلم وفق هذه الظروف الميزراحية، فمرحبا بالحرب التي كانت وستكون دائما بين الحداثة الإسرائيلية والإقطاع العربي: ففي الجانب الإسرائيلي ينعم الناس بالحق في الثقافة وحق الاقتراع للجنسين والحق في العمل للجميع والتكنولوجيا في خدمة الكل.. والعكس هو الحاصل لدى العرب، حكم لاديمقراطي قهر النساء، العبودية، الفقر.. ويذهب حتى إلى التشكيك في ذكائهم!

وليس هذا فحسب، بل وصل به الأمر إلى حد احتقار العرب حينما وصفهم ولو بشكل غير مباشر على أنهم مهرّجون وبهاليل وهو أمر يعاقب عليه القانون في فرنسا لو كان من العرب من يتكفل برفع دعوة قضائية، إذ هناك من حوكموا بسبب أقوال أقل خطورة بكثير من ذلك. ولكن ذلك هو وضعنا الرديء إذ من يقرأ ويتابع لا يملك شيئا ومن يملك الأموال الطائلة لا يقرأ وقد لا يهمه الأمر بتاتا.

وإن لم أكن شخصيا من هواة الرد القضائي في المسائل الفكرية فإني أتساءل عن دور سفاراتنا وقنصلياتنا هنا بفرنسا؟

يعبث السيد ميزراحي بالكلمات والمصطلحات إلى درجة بات مؤكدا أن الأمور اختلطت عليه فلم يعد يفرّق مثلا بين عربي وفلسطيني ومسلم، بل لم يعد يفكر أصلا، هو الفيلسوف الذي كان من المفروض أن تكون مهنته التفكير واستعمال العقل لا غير والبحث عن حلول ترضي الجميع وترسي ركائز السلم بدل الحرب والدمار. فماذا جنى الإسرائيليون والفلسطينيون والعالم كله من هذه المواقف المتطرفة اللاعقلانية منذ 1948؟ كيف يمكن لرجل يدّعي أنه يفكر في “السعادة” و”الأخلاق” و”الحب” و”الآخر” كما تقول عناوين كتبه أن يدافع عن حائط يفصل بين البشر ويخلق مصاعب وكوارث، بحجة أنه يمنع الآخر، الفلسطيني من الاعتداء على الإسرائيليين؟

أيّ مصداقية فلسفية لرجل يطالب من غير اليهود أن تكون لهم واجبات تجاه اليهود ويعفي اليهود من كل واجب تجاه غير اليهود؟

من بؤس الفلسفة أن يقدم نفسه ويقدمه غيره على أنه من أنصار الأوديمونيزم، تلك النظرية الأخلاقية المؤسسة على السعادة كخير أسمى؟ ومن الكيل بمكيالين أن يحذر الرسميون الفرنسيون والإعلام عموما شبان الضواحي الفرنسيين ذوي الأصول العربية الإسلامية من مغبة استراد النزاع العربي/الإسرائيلي إلى الأراضي الفرنسية بينما لا أحد منهم ينبس ببنت شفة حينما يتعلق الأمر بـ”فلاسفة” فرنسيين من أصول يهودية لم يستوردوا النزاع فحسب بل أصبح الدفاع عن مواقف إسرائيل هو هاجسهم المركزي!

 

كاتب من الجزائر