“باديو”:”مازلت متمسكا بالفرضية الشيوعية”

 (جانب من النقاش حول الاشتراكية والاشتراكية الديمقراطية في الساحة الفكرية الفرنسية اليوم)ا

جريدة ليبيراسيون الخميس 9 نوفمبر 2017

Libération 9 novembre 2017

ترجمة وتقديم: محمد عادل مطيمط

آلان باديو

تقديم:ت
    أعلن “آلان باديو” مؤخرا عن إيقاف دروسه وعن أنه يُزمع نشر كتاب الحقائق المحايثة مُنجزا بذلك ثلاثيةً تتكوّن أيضا من الوجود والحدث . لم يتوقف هذا الرجل الثمانيني الأنيق عن نشر الكتب. فبالإضافة إلى أعرف أنكم كثيرون جدّا…نشر “باديو” التقليد الألماني في الفلسفة ثمّ تقريظ السياسة و تقريظ الحب وتقريظ المسرح (2013) ثمّ تقريظ الرياضيات في 2015. المعروف عن “باديو” أنه لم يشارك منذ 1968 في أيّة عمليّة انتخابية. يأتي ذلك في إطار موقف ازدرائي واضح من الديمقراطية البرجوازية وفي وفاء تامّ للمَثَل الأعلى الذي رسمته المجموعة الماوية التي انتمى إليها منذ تلك الفترة، أي “اتحاد شيوعيّي فرنسا الماركسي اللينينيت 

لوران جوفران

ورغم أن جريدة ليبيراسيون” تصنف من قبل “اتحاد شيوعيّي فرنسا” على أنها جريدة تحريفية ومرتدة عن مبادئ الشيوعية، فإن “باديو” قَبِلَ بإجراء هذا الحوار مع رئيس تحريرها “لوران جوفران” الذي يدافع عن الخط الاشتراكي الديمقراطي. دار النقاش حول كتاب تقريظ السياسة بين رجل يتبنى “الفرضية الشيوعية” المرتكزة على فكرة التمرّد الشعبي (الذي يقرّ “باديو” نفسه إنه لا يعرف بالتحديد الصورة التي سيتم بها)، ورجل يريد التقدّم سلميا وديمقراطيا نحو الاشتراكية. ويدافع “باديو” هنا عن “الفرضية الشيوعية”

  معتبرا أنه إذا كان من اللازم إحصاء المجازر التي ارتكبتها الأنظمة الشيوعية، فانه لا بد أيضا من إحصاء ضحايا النظام الرأسمالي.

ت

Alain Badiou, quelle est votre définition de la politique ?

Alain Badiou : J’aurais peut-être dû appeler mon livre «Éloge d’une politique». Je vois en effet deux définitions possibles de la politique. La première centre la question sur la conquête et l’exercice du pouvoir d’Etat. La politique est alors définie comme une gestion réaliste des nécessités du pouvoir. La seconde définition, qui a surgi très tôt, notamment avec Platon, considère que la question clé est celle de la justice. Je m’engage dans la seconde direction et je définis la politique comme l’ensemble des procédures qui conduisent à l’organisation d’une société juste, ce qui veut dire : délivrée des rapports de force et des inégalités qui constituent la réalité collective. Ce débat existait déjà entre Aristote et Platon. Le premier a une conception très pragmatique, il analyse les conditions économiques et financières de l’existence des sociétés, il est soucieux de l’existence d’une classe moyenne, quand Platon tente d’abord de définir une société juste et ne se soucie qu’ensuite des moyens requis pour y parvenir.

لوران جوفران: ما تعريفك للسياسة سيد آلان باديو؟

    آلان باديو:ت
 1ربما كان عليّ أن أختار لكتابيَ عنوانا آخر هو تقريظ لسياسة بعينها، فأنا اعتبر أنه يوجد تعريفان للسياسة: تعريف أول يركّز التساؤل على عملية الاستحواذ على السلطة وعلى عملية اشتغال سلطة الدولة. وبهذا المعنى تتحدد السياسة على أنها إدارة واقعية لضرورات السلطة. أما التعريف الثاني الذي كان سابقا في ظهوره، منذ أفلاطون بصفة خاصة، فيقوم على اعتبار أن السؤال المحوري هو سؤال العدالة . وأنا منخرط في هذا الاتجاه الثاني حيث أنني أُعرّف السياسةَ على أنها مجموع الإجراءات التي تقود إلى تنظيم المجتمع العادل، أي المجتمع المتحرر من علاقات الهيمنة وحالات اللامساواة  المكونة للواقع الجماعي .  لقد كان هذا النقاش دائرا منذ البداية بين أرسطو وأفلاطون. كان للأوّل تصور براغماتي جدّا حيث يحلل الشروط الاقتصادية والمالية لوجود المجتمعات، وكان مهتما بوجود طبقة وسطى، في حين كان أفلاطون يسعى في المقام الأوّل إلى تعريف ماهية المجتمع العادل ولا يأبه إلا في مرحلة ثانية للوسائل اللازمة من اجل بلوغ ذلك الهدف.
ا

:لوران جوفران

هذا التمييز يناسبني. ولكنكم في تقريظ السياسة تذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. فلا وجود بالنسبة إليكم لسياسة إلا إذا انتزعنا المشروعية من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. فلا تبرز السياسة إلا عندما تحصل مواجهة بين تصوّرين مختلفين جذريا لتنظيم المجتمع، أحدهما يرتكز على الملكية الخاصة والآخر على الملكية الجماعية. وفي نظري فان ذلك خاطئ. توجد سياسة في منظومة السوق: إن إعلان الحرب على العراق من عدمه سياسة، وإلغاء ضريبة التضامن على الثروة أو المحافظة عليه سياسة. الاختيار بين التصويت على “فيّون”F.   أو على “هامون”  هو أيضا سياسة. فسؤال الملكية ليس سوى سؤال من بين أسئلة أخرى، بل لقد أصبح سؤالا على درجة ثانية من الأهمية بعد فشل الشيوعيّة.
     : آلان باديو
ولكن ذلك هو بيت القصيد. فالمجتمعات السياسية التي ظهرت إبان نشأة الدول حول الزراعة المستقرة وحول التقنيات الجديدة للإنتاج، أو حول تقنيات الاتصال والحرب، ترتبط تماما بتقسيم المجتمع إلى طبقات، وهي مرتكزة على الملكية الخاصة للثروة التي كان يجب أن تكون ملكية مشتركة. السياسة تتمثل إذن في حلّ الإشكال القائم بين أولئك الذين يملكون وأولئك الذين لا يملكون. نحن اليوم بصدد الصورة الأخيرة الأكثر تطورا لهذا البناء الألفي الذي أسميه “العصر الحجري السياسي” الحديث  خاصة على الصعيد التقني. الرأسمالية نفسها تتشكّل باعتبارها النتيجة الأخيرة لهذا التاريخ طويل الأمد من التنظيم الاجتماعي حول الملكية الخاصة للثروة التي يتعلق مصيرها الطبيعي بمصيرالمجتمع. وينتج عن ذلك أن السياسة اليوم، في معنى العدالة في شكلها الأدنى، تقتضي تغييرا تاما وتحوّلا نسقيّا.
        : لوران جوفران
لا أظن أنه يجب التشكيك في قواعد الملكية الخاصة وقواعد السوق من أجل الحديث عن السياسة. هناك أسئلة أخرى لا تقل أهميّة وهذه الرؤية هي رؤية اقتصادوية بحتة.
     : آلان باديو

نحن على طرفي نقيض. إنّ سياسة لا تطرح مشكل المِلكيّة هي سياسة بالمعنى البسيط للعبارة، بمعنى أنها [مجرّد] إدارة لسلطة الدولة، المرتكزة في حد ذاتها على الملكية التي تسمى برجوازية، أي تلك المتعلقة بالمالية والمضاربة والصناعة والإعلام. من المؤكد أن الفوارق طفيفة بين الإدارة الليبرالية  والليبرالية الاجتماعية.
:لوران جوفران
ليست فوارق طفيفة.
آلان باديو
لعمري إنها كذلك…
لوران جوفران
دعوني أقدم لكم الدليل على ما أقول. آخذ مثالا آخر: هو منزلة الدين في المجتمع. فالاختيار بين الثيوقراطية ونظام لائيكي يؤثر في الحياة اليومية لملايين البشر. وهذا ليس مرتبطا بسؤال الملكية الخاصة. وإصلاح قوانين العمل في صيغة أكثر ليبرالية هو اختيار سياسي ستكون له نتائج على ملايين العمال الفرنسيين.
آلان باديو
نعم، هذا بديهيّ.
لوران جوفران
ليست تلك فوارق بسيطة، وأنا أسميها الاختلافات العميقة حول تنظيم المجتمع. فالنضال من عدمه ضد ارتفاع درجة الحرارة، والذي يضع مصير الإنسانية بأكملها في الميزان ليس فارقا بسيطا.
آلان باديو
[ولكنّ] سؤال تدمير بيئة الأرض يرتبط على وجه الدقة بسؤال الملكيّة. فالربح الخاص هو منظومة افتراس وتدمير للثروة المشتركة. وسؤال الإيكولوجية يقتضي إعادة طرح سؤال الرأسمالية.
–         لوران جوفران
لقد شَهِدْنَا تدميرا أكثر عنفًا للمصادر الطبيعيّة عندما تمّ إلغاء الملكية الفردية.
آلان باديو
هذا سؤال آخر. فبعد آلاف السنين من إدارة تتمحور حول نظام الملكيّة الخاصة، تحصّلنا على تجربة ملكية جماعية دامت سبعين عاما ! فكيف نتعجب من كون هذه التجربة القصيرة جدّا، والتي قامت لأول مرة في الصين وروسيا، لم تتمكّن من الاستقرار ووقعت في الفشل بصفة مؤقتة؟ إن الأمر متعلّق هنا بالصراع ضد مقدّسT  عمره آلاف السنين، وكان من اللازم ابتكار كل الوسائل في غياب نموذج سابق.
لوران جوفران
أنتم تدافعون عن “الفرضية الشيوعية”، وليكن لكم ذلك. تتكلّمون باستمرار، وتنشرون كتبا حول ذلك. فلماذا يكون لهذه “الفرضية” مثل هذا الصدى الضعيف؟ الجواب هو أنه لا أحد يريدها [اليوم]. لا أحد يرغب في العودة إلى تلك التجربة الشيوعية التي قادت إلى كارثة تاريخية.
آلان باديو
لا أحد يرغب في الالتزام بمواصلة الفشل! ولكن مثلما ترَوْنَ، فإن التخلّي عن فرضيةٍ ما لمجرد أن التجارب الأولى لتطبيقها باءت بالفشل هو منهج غير عقلاني. ولحسن الحظ فإنه لا أحد من بين الفيزيائيين آو الفنانين يوافقكم على هذا الاستدلال.
سؤال: آلان باديو، لماذا تُنَصّبُونَ أنفسكم محاميا للتجارب الصّينية والروسية إذا كانت هذه التجارب قد فشلت؟
آلان باديو
لم أجعل نفسي محاميًا لذلك. بل إنني أقول على العكس إن إنقاذ فرضية الملكيّة الجماعية العادلة للثروة يجب أن يأخذ نقاط الفشل بعين الاعتبار، تلك النقاط التي من الممكن تفاديها وابتكار حلول جديدة عندما يكون الأمر متعلقا بالعشريات الأولى لتجربة من هذا الحجم. ولكن بالنسبة إلى “لوران جوفران” والمتعاطفين مع الرأسمالية المُهيمنة، فقد تم الحسم في كل شيء وهم يرون أن هذا الشكل من العدالة إجرامي.
         لوران جوفران
ولكن الشيوعية فشلت فشلا جوهريا، وليس فقط على مستوى تمظهراتها. أنتم تقولون إن هذه التجارب فشلت لأنها لم تُدْفَعْ إلى أبعد مما وصلت إليه، غير أن الفشل تم على وجه التحديد عندما تم دفع التجربة إلى مداها الأقصى. آخذ مثالا على ذلك القفزة الكبرى إلى الأمام[2]   في الصين خلال نهاية الخمسينات. فقد تمّ الذهاب بالمِلكيّة الجماعية إلى مداها الأقصى. لم يتم إقامة الملكية الجماعية للأرض فقط بل تم أيضا تعميم  الأدوات والأسمدة  وحتى الحياة اليومية للفلاحين الذين كانوا يتناولون وجبات طعامهم في مطاعم جماعية، والذين كان عليهم أن يُرجعوا أدواتهم الخاصة. والنتيجة هي أن الإنتاج الزراعي قد انهار خلال سنة واحدة. وبما أن الأرياف الصينية كانت منذ السابق على عتبة الفقر فقد أدت هذه الشيوعية إلى اندلاع مجاعة رهيبة. وبأمر من “ماو”، تمّ التمسّك بهذا النهج لمدة سنتين بطريقة إجرامية. لقد تم الانتباه إلى أن الملكية الجماعية تقود إلى كارثة. لقد وصل الأمر إلى ما بين 10 و30 مليون نسمة من الموتى. وقد تمّ التثبّت من هذه السيرورة نفسها في كل مكان.
آلان باديو:
لا  قطْعًا.
لوران جوفران
أعطني أمثلة إذن.
آلان باديو
في السبعينات يُعتبر الاتحاد السوفييتيURSS  بمثابة القوة الثانية على صعيد العالم. وكانت ألمانيا الشرقية تحتل الترتيب السابع في قائمة الدول الصناعية.
لوران جوفران
ولكن الأرقام كانت مزيّفة. وقد اُفتُضِحَ الأمر بعد سقوط جدار برلين! يكفي أن نقارن بين ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية كي نلاحظ أن الأولى نجحت أكثر من الثانية على الصعيد الاقتصادي خاصة فيما يتعلق بفئة الأجراء، دون ذكر مسالة الحريات العامة !
آلان باديو
عندما تزعجكم الأرقام تقولون إنها مزيّفة ! ولكن ليس ذلك هو لبّ المشكل. نستطيع، لا بل يجب أن نتصوّر ونصنّف ونعدّل كل ما من شأنه أن يفسّر كون فرضية تحررية يرتبط بها مستقبل البشرية، فرضية تقترح تنظيما لكل شيء بشكل غير مسبوق منذ آلاف السنين، تمرّ في بدايات تجسيدها بأزمات كبيرة جدّا. إن عكس ذلك هو ما سيثير الاستغراب! اُذَكِّرُ هنا بالمشاكل العويصة التي تعترض الرياضيات: فالأخطاء التي يرتكبها رياضيون كبار، لا تلغي ضرورة مواصلة البحث عن حلّ.
لوران جوفران
أنتم تستخدمون هنا مجازا لا قيمة برهانية له. فما يحدث في مجال الرياضيات لا ينطبق آليّا على المجتمع. لقد تمّ القيام بكل أنواع التجارب على الشعوب. ولقد وصلت الشعوب إلى الحدّ الذي لم تعد فيه تتحمل التجريب عليها ! فضلا عن أن تلك التجارب قد أدت إلى مجازر ضخمة.
لآلان باديو
ولكن الشعوب وصلت أيضا إلى الحدّ الذي لم تعد فيه تتحمل تبعات الليبرالية. فلنقم بإحصاء عدد القتلى، كل القتلى [من هذا الجانب وذاك].
لوران جوفران
تتعرضون في كتابكم إلى النزعة الاستعمارية ، أي إلى المظهر الأكثر سلبية للرأسمالية.
آلان باديو
وأنتم تأخذون المظهر السلبي للشيوعية بغباء لا حدود له.
لوران جوفران
انتم تقولون لنا إن الشيوعية ليست أنكى من الرأسمالية في ما يتعلق بالمجازر. وهذا في حدّ ذاته محل شكّ كبير. ولكن فَلنُسَلِّمْ بأنكم على حق. أين يكمن التقدمLe progrès  في هذه الحالة؟ وفيم يكون عدد قتلى الاستعمار مكافئا لعدد قتلى الشيوعية؟ فالشيوعية هي من حيث المبدأ قوة تحررية يُفترض فيها أن تكون أقل قتلا للبشر من  الرأسمالية. ولكن ما حدث هو العكس.
آلان باديو:
أنبهكم فقط إلى أن طريق الرأسمالية إجرامية على نطاق واسع. ولا يتعلق الأمر بالاستعمار فقط ! أنظروا إلى المجازر الرهيبة لحربين عالميتين حدثتا في قرن واحد. وفي الوقت الذي أتحدث فيه أنا عن ضرورة تجديد الشيوعية التي يجب أن تتحمل وزر أخطاء الماضي، ترَوْنَ أنتم أنه من الملائم البقاء تحت سطوة رأس المال.
لوران جوفران
لا أبدًا! لقد قامت الاشتراكية الديمقراطية تاريخيا بإصلاح الرأسمالية في الوقت الذي حافظت فيه على نظام دستوري يضمن الحريات الفردية ويتسبب في عدد أقل بكثير من الضحايا خلافا لسطوة الحزب الواحد الذي تسعون باطلا إلى الدفاع عنه.
         آلان باديو
لقد شَهِدتُ بنفسي هذه الاشتراكية التي كانت مدرستي السياسية خلال حرب الجزائر عندما كانت ممارسة التعذيب تتم في كل مراكز الشرطة الباريسية!
لوران جوفران
دعوني اُكْمِلُ. لقد مكّنت الاشتراكية، أو الاشتراكية الديمقراطية، التي قامت بتنظيم اقتصاد السوق، من تحقيق تقدّم اجتماعي كبير: الخطة الاشتراكية لبداية القرن، والنشاط النقابيّ المُقَنّنُ أو التقاعد التناصفي ، ثم الضمان الاجتماعي ونظام التأمين على المرض ومجلة الشغل، لقد غيّرت كل هذه المكاسب حياة الملايين من العمال. إن تاريخ الاشتراكية في كنف الحرية يثبت أنه بالإمكان تحقيق تقدم كبير في الوقت الذي نحافظ فيه على منظومة الملكية الخاصة التي أثبتت نجاعتها على الصعيد الاقتصادي. وفي هذا الوقت كان الاقتصاد الجماعوي  يغرق في وحل اللاّنجاعة، وفي الكفاف والجمود والكذب وقمع الجماهير.
آلان باديو
ولكن العالم الذي يقودنا إليه كل ذلك هو عالم ظالم تماما إذا أخذتموه مثلما يجب أن يكون: على صعيد العالم ككل وليس على صعيد فضاءاتكم الصغيرة والمحميّة، يوجد اليوم 364 شخصا يمتلكون ثروات تساوي ما يملكه 3 مليارات من البشر ! هناك في عالمنا اليوم ملياران من البشر لا قيمة لهم، وهم اليوم تائهون بحثا عن حياة ممكنة.
لوران جوفران
تدافعون مرة أخرى في كتابكم عن الثورة الثقافية الصينية التي أطلق شرارتها “ماو” بداية من 1966. أنا أقول لكم إنني اشعر بصدمة عميقة لكونكم تقولون ذلك. فالثورة الثقافية هي عبارة عن جحافل من الشباب الجاهل غالب الأحيان ينزلون إلى الجامعات والمؤسسات والوزارات لاحتجاز المثقفين والمسؤولين وقيادتهم في الشوارع بشتمهم ووضع شارات حول رِقابهم  مكتوبٌ عليها وصفهم بالمرتدّين والخونة والتحريفيين. ثمّ تتمّ محاكمتهم في الساحات العامة ويُضربون حتى الموت أو يُنْفَوْنَ إلى صحراء “غوبي”  أو إلى مكان آخر. لقد كان ذلك تجربةَ رُعبٍ رهيبة، في حين أنكم تصفونه بأنه كان مرحلة ضرورية ومفيدة ومحققة للآمال ! هناك مثال على ذلك هو الأميرة الحمراء “سُنغ بنبن” ، ابنة أحد مؤسسي الجيش الشعبي، التي شاركت في حُكْمِ محكمةٍ شعبيّةٍ بالقتل على مديرة مدرستها بالرغم من أنها كانت هي نفسها شيوعية. ماتت مديرة المدرسة في الصباح بعد ليلة من التعذيب. ولقد اعتذرت “سُنغ بنبن” عن ذلك سنة 1994. فهي التي نشاهدها في صور “ماو” وهي في استقبال الحرس الأحمر في ساحة “تيانن مان”. كان القائد الأعظم [“ماو تسي تونغ”] يقدمها باعتبارها نموذجا.
آلان باديو
اسمحوا لي أن أقول لكم إنكم تَرْوُونَ أحداثَ الثورةِ الثقافية مثلما يروي أحد النبلاء في المقاطعات الداخلية قصة الثورة الفرنسية!
لوران جوفران
لست نبيلا ولا كذلك من مقاطعة داخلية… هل ترون أن ما أقوله خاطئٌ؟
آلان باديو
ما تقولونه ليس خاطئا، بل أنكى من الخطأ. لأنه ينبع من أسطورة سوداء ورجعية وسخيفة تختزل الثورة الثقافية في ذلك النوع من الأحداث. أنتم مثل “دوماس-الابن” الذي لمْ يرَ من كومونة باريس  سوى مُشْعِلاتِ الحرائق  من النساء باليات الثياب. لماذا لا تذكرون من بين آلاف الوقائع المدهشة للثورة الثقافية إعادة تشغيل ميناء شنغهاي الذي تمّ تعطيله بسبب صراعات سابقة، والذي أشرف عليه تحالفٌ عمليٌّ وجديدٌ تمامًا بين الطلبة والعمّال؟ أنتم تختارون حكايةً مرعبةً جدّا تختزلون فيها الحركة الجماهيرية الضخمة – مثل ماي 68 – خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
لوران جوفران:ت
هذه ليست حكاية، إنها رمز الثورة الثقافية التي قتلت مليون نسمة تقريبا.
آلان باديو:ت
بهذا المعنى يجب أن يكون رمز الثورة الفرنسية دائما هو حادثة الإغراق في “نانت” ، كفاك هراءً…
لوران جوفران
ولكن لا أحد اليوم يدافع عن الرعب الثوري. إن حادثة الإغراق في “نانت” هي نقطة سوداء على ثوب الانجاز العظيم للمؤتمر الوطني الفرنسي La   .
آلان باديو:ت
ماذا تعنون ب “الرعب”؟ إذا كان الأمر يتعلق بسنوات 1792-1794، تلك التي تلت إزاحة النظام الملكي مباشرة ، وإذا كان الرّعبُ هو دستور 1793 الرائع والذي لا مثيل له في ذلك الوقت، أو بالتعبئة الوطنية ضد الغزو الخارجي، فأنا أقول: “نعم، أنا أدافع عن الرعب”. لقد كانت الفترة الروبسبييرية مرحلة أساسية جعلت من الثورة الفرنسية شيئا آخر عدا مجردَ تقليصٍ دستوريٍّ من سلطات الملك مثلما هو الشأن في انجلترا.
لوران جوفران
لقد وضعت الثورة من تلقاء نفسها حدّا للرعب ضدّ “روبسبيير”  بمجرد انتفاء الخطر الخارجي. لقد أراد الرّوبسبييريون مواصلة التجربة أملا في ولادة “إنسان جديد”، وهو ما مثّل ضربًا من الجنون. ولكن بالإمكان الدفاع عن هذه المرحلة بالقول إنها سمحت رغم كل شيء ببناء مجتمع أكثر حرية. أما المجتمع الذي دعا إليه الجيش الأحمر الماوي فمُؤَسَّسٌ على الرّعب والقمع، والصينيون اليوم يعتبرونه رعبا، في الوقت الذي اختار فيه الفرنسيون نظام الجمهورية الديمقراطية.
آلان باديو
انتم تتكلمون عن الحرس الأحمر وعن جوانب الثورة الأخرى دون علم. هذا واضح. تتكلمون عن مجتمع حرّ ولكن مقولة الحرّية إذا أُخذت منعزلة فإنها لا قيمة لها. ما علاقة حرّية شخص يمتلك إمبراطورية صناعية بحرية شخص لا يملك شيئا؟ تُصبح الحرية في سياق هذه الأشكال الكبيرة من اللامساواة  تصوّرا وهميّا.
لوران جوفران
الحرّية ثروة ثمينة في كل الظروف. إنها شرط إمكان المقاومة. فهي مُهِمَّةٌ للفقراء وللأغنياء على حد السواء. تسمح حرّية الفقراء بالحدّ من سلطة الأغنياء. يتم ذلك مثلا بخلق الدولة الراعية، وهذا ما تحقّق فعلا. أما إلغاء الحرّية من قِبَلِ الحزْب [الوحيد]، فانه يؤول إلى هيمنة الأوليغارشيا الشيوعية التي تَخْلُقُ شكلاً جديدا من اللامساواة.
آلان باديو
حسنًا. نحن نلاحظ  منذ عشرات السنين وفي كل مكان من العالم أن هذا “الاختلاف” الذي يتبجحون به كثيرا، ليس سوى صورة رمزية للمحافظة على النسق. اليوم بدأ الناس يتفطنون إلى ذلك: لذلك امتنعوا عن الانتخاب خلال المهزلة الأخيرة التي نصّبت ماكرون رئيسا.
لوران جوفران
هذه نقطة خلاف رئيسية بيننا. انتم تُضَحُّونَ بالحرّية من أجل المساواة، وعندئذ ستخسرون هذا وذاك في آن معا.
سؤال: ما هي يا آلان باديو مبادئ المجتمع الشيوعي كما تتصورونها؟
آلان باديو
يتعلق الأمر بإعادة تفعيل المبادئ الأربعة الأساسية للمجتمع الشيوعي: إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، القطع مع تقسيم العمل إلى مهام تسيير ومهام تنفيذ، والى عمل فكري وعمل يدوي، والقطع مع هَوَسِ الهويّات القومية، ثم القيام بكل ذلك عبر حلّ الدولة في المداولة الجماعوية .
سؤال: انتم تُدينونَ الوسائل المستخدمة في التجربة الشيوعية، فما هو إذن الطريق لتجسيد هذه التجربة في الواقع؟
آلان باديو
لم يعد وجود منظمة مُعَسْكَرةٌ ، هي منظمة الحزب الوحيد  ، وتكون قادرة على السطو على السلطة وممارستها بمفردها، هو ما يضمن بأية حال قيام المبادئ المذكورة بتنظيم الواقع. يجب إعادة ابتكار السياسة: يجب أن تقوم علاقة جدلية جديدة تماما بين الديمقراطية الشعبية أو الحركية ومنظمات الدولة. ولكن كيف؟ أجيب بأننا لا نعرف ذلك، نظرا لوجود فترات شكّ، هي لحظات من التاريخ يظل فيها سؤال الوسائل غامضا. أي أننا قبل أن نسارع إلى طرح سؤال الوسائل، يجب أن نبحث أولا عن مشروعية المشكل وعن وجاهة الفرضية. وهنا، نكون بحاجة إلى المثقفين الذين يندر وجودهم اليوم بسبب الخراب الذي سببته الثورة المضادة خلال الثمانينات، تلك الثورة التي كان شعارها هو: “الفيلسوف الجديد”، ولكن من حسن حظنا أن جيلا جديدا قد ظهر.
لوران جوفران
وفيما يتعلق بالوسائل، هل تعتبرون أنه يجب الحفاظ على الحرّيات العامّة، حرّية الانتخاب، حرّية الاختيار لدى المستهلك، وحرية التنقل وحرية التعبير؟ هل يجب الحفاظ على الفصل بين السلطات وعلى مؤسسة قضائية مستقلة عن السلطة السياسية؟
آلان باديو
يجب أن توجد حرية تعبير للأفراد تكون أكثر اتساعا بكثير من اليوم. ذلك أن الحرية اليوم مُقَيّدةٌ بصرامة نظرا لصلابة هياكل الملكية. وفيما يتعلق بحرية الرأي، لستم أنتم من سأعلمه كيف أن كل وسائل الإعلام الكبرى اليوم يملكها مشاهير الكاك 40 (CAC 40.)
–         لوران جوفران
هل افهم من كلامكم انه إذا اعترض الناس بأغلبية ساحقة على الفرضية الشيوعية، فإنها لن ترى النّور؟
آلان باديو
دون عمل في العمق يهدف إلي التأثير على الرأي العام، فإنه لا يمكن الدفع بسياسة ما إلى الإمام. لقد قال “ماو” ذلك وكرره مرارا[3].
لوران جوفران:
في النهاية أنتم تقبلون بالعملية الديمقراطية. ولكن ذلك يجب أن يفرز أغلبيةً. فلن يقع الذهاب نحو الفرضية الشيوعية بالارتكاز على أقلية حركية  أو على طليعة.
–         آلان باديو
ليس للتصور العددي للأغلبية أي معنى سياسي. إنه يعبّر عن سذاجة استطلاعات الرأي. ولكن كنت أنا نفسي قد انتقدت منذ زمن طويل مفهوم الطليعة . إن الشرط الضروري لانتصاراتٍ ممكنةٍ للشيوعية الجديدة هو وجود حركات جماهيرية ورأي عام يكون ملائما على نطاق واسع.
لوران جوفران

أنتم إذن ديمقراطيّون؟
آلان باديو
انأ أكثر منكم ديمقراطية. فما هو أولي في الديمقراطية  هو أن لا نتسامح مع الأوليغارشيات المالية والإعلامية ومع الصور المشوّهة الكارثيّة التي تفرضها أشكال اللامساواة بدل تصورٍ واقعي للحرّية. وفي نظري أنتم لستم ديمقراطيون بأيّ وجه من الوجوه.
لوران جوفران
مرة أخرى تُبيّن التجربة الديمقراطية لليسار أن إصلاح النسق ممكن. بقي أنني أقبل قرارات الأغلبية.
آلان باديو
ولكن ما الذي “يقرّره ” الشعب؟ فالديمقراطية اشتقاقيّا هي “سلطة الشعب”، وعلى الأقل يجب أن لا تتمّ مصادرة هذه السلطة من قبل جهة أوليغارشية، مثلما هي الحال في الرأسمالية التي تدافعون عنها.
لوران جوفران
أنا لا أدافع عن الرأسمالية، بل أدافع عن اقتصاد السوق الذي تُنظّمُهَ الدولةُ، والأمر ليس نفسه.
آلان باديو
هل تستخفّون بعقلي ؟ إن من يتحدث عن اقتصاد السوق يريد تجنّب استخدام كلمة “رأسمالية” البذيئة.
سؤال: ما هو الأمر الذي تعتبرونه مُلحّا بالنسبة إلى سنة  2017؟ أنتم تقدحون في حركة “فرنسا المتمردة”[4]  وزعيمها “جان لوك ملنشون” ، وفي “اللجنة الخفية”[5]   وكذلك في حركة “الوقوف ليلا” [6].
آلان باديو
ليس لدي نيّة لاعتبار “ملنشون” عدوّا. تقول لي تجربتي إن مرور الاشتراكية الديمقراطية بمرحلة حرجة، مع بروز أقليةٍ تكون أكثر تجذّرًا من الناحية الايديولوجية  وأكثرَ حركيّة ، شَكّلَ دائما دافعا لعودة الفرضية الشيوعية إلى الظهور. فحتى لينين خرج من صلب انقسامات الاشتراكية الديمقراطية.  أقول ذلك وانأ أشعر بأن أفكار “ملنشون” الذي يتبنى توجّه “فرانسوا ميتران”، ليست ممّا يروق لي

« Ce n’est pas ma tasse de thé ». 
لوران جوفران
سيجعله ذلك محبّذا بالنسبة إليّ إذن.
آلان باديو
الشيء من مأتاه لا يُستغرب. أنا أعرف أن البروز الحركي ل”ملنشون” يُجمّع حوله قسما من الشباب، ويثير اهتمام عدد معيّن من العمال. أنا انتظر لأرى. لا أقوم برجمهم. أنا انتظر أن يفضي ذلك إلى ثمار حقيقية،  أي أن يساهم ذلك في بعث الفرضية الشيوعية من جديد وأن يجعل مرّة أخرى تنظيمها المستقل وقوتها الشعبية أمرا ممكنا.

الرابط نحو النسخة الفرنسية لنص الحوار

https://www.liberation.fr/debats/2017/11/08/alain-badiou-je-maintiens-l-hypothese-communiste-laurent-joffrin-dont-plus-personne-ne-veut_1608749

*******************************
[1] بدلا من العنوان الفعلي للكتاب: تقريظ السياسة

Eloge de la politique, Flammarion, 2017.
[2] تسمية تطلق على السياسة الاقتصادية التي اعتمدها “ماو” بين سنتي 1958 و 1960 .
لا حظ أن آلان باديو لا يزال مكبّلا بروح تقديس القادة… يبدو هذا الأمر غريبا خصوصا عندما يتعلق بمفكر بحجم آلان باديو. [3]
[4]  تأسست حركة “فرنسا المتمرّدة” سنة 2016 للدفاع عن خطة مشتركة اشتراكية وايكولوجية.
 [5]  “اللجنة الخفيّة” هي الجهة المجهولة التي وقعت بذلك الوصف على كتاب التمرّد القادم و هو نص سياسي نشر في فرنسا سنة 2007.
[6] انطلقت حركة “الوقوف ليلا” في 31 مارس 2016 عقب مظاهرة ضد قانون الشغل.