Arwiqa Portiques – أروقة

Charles Boyer «Rousseau, penseur de (la crise de) la représentation politique » ___ شارل بواييه، « رسّو فيلسوف (أزمة) التمثيل السياسي »ـ

Cahiers philosophiques 2009/3 (N° 119), pages 97 à 107

شارل بوييه    Charles Boyer

ترجمة وتقديم: محمّد عادل مطيمط

Source:

Mis en ligne sur Cairn.info le 15/11/2012 https://doi.org/10.3917/caph.119.0097

تقديم

  يعالج « شارل بوييه »  في هذا المقال معضلة التمثيل الديمقراطي الحديث والمعاصر انطلاقا من زوايا نظر كلاسيكسية («رسّو»، «كونستان» ) ومعاصرة (« روزنفالون »    ، « ح. آرندت » )، مبيّنا تقاطع هذه الزوايا رغم تباعدها زمنيا عند النقطة المتعلّقة باستحالة الديمقراطية المباشرة القديمة التي كانت ممكنة فقط بموجب ظروف خاصة بالمجتمعين الروماني واليوناني، وهي ظروف لم تعد جارية منذ مطلع الأزمنة الحديثة. فالظروف الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية الحديثة التي لا زالت قائمة منذ « ميكيافيلي » (فضلا عن رؤية أنثربولوجية جديدة متناسبة معها) فرضت حسب هؤلاء المفكرين القبول بنزعة واقعيّة قائمة على التخلّي عن الحلم الرومانسي بقدرة الشعب على حكم نفسه بنفسه في ديمقراطية مباشرة، والاعتراف بالحقيقة المرّة المتمثّلة في حتميّة « الإضافة  » الخارجية (حسب عبارة «درّيدا») التي تترجمها الديمقراطيّة التمثيلية. غير أن هذه الواقعيّة المرّة لم تمنع هؤلاء المفكرين من التفاؤل والدعوة إلى إعادة تسييس الديمقراطية الحديثة والتفكير في آليات مواجهة المأساة المتمثلة في حتمية الانحراف التمثيلي. ولعلّ أهم هذه الآليات التي انتهى إليها النقد الفلسفي المعاصر للديمقراطية التمثيلية هي آليّة « انعدام الثقة الديمقراطي » و »معارضة الديمقراطية » لدى المؤرخ والمفكر الفرنسي « بيير روزنفالون »، الذي يسلّم بأن الديمقراطية أضحت اليوم تكمن في النقاش المستمرّ حول حسن سيرها.  ولكن « روزنفاليون » لا يفعل سوى أنه يواصل نهج «رسّو» الذي لم يكن مثاليا حالما بنموذج الديمقراطية المباشرة الأثيني مثلما يقال عادة، بل كان واقعيا ومدركا بدقة لأزمة الديمقراطية التي نعيشها نحن اليوم. (المترجم)

Résumé de l’article:

La crise de la représentation politique est un thème récurrent depuis de nombreuses années. Et nous voulons montrer que, philosophiquement parlant, c’est Jean-Jacques Rousseau qui, dans le Contrat social, l’a pensée comme le mal politique de notre modernité. En effet, en suivant la grille de lecture proposée par Jacques Derrida dans De la grammatologie, la démocratie représentative en tant que « supplément » de la démocratie directe impossible, ne peut que dénaturer cette dernière, c’est-à-dire tendre à dessaisir le peuple de sa souveraineté. Et si ce mal est inhérent à la démocratie représentative des « peuples modernes », cela montre que Rousseau ne peut pas être nostalgique de la démocratie directe antique comme on le dit d’habitude mais le penseur lucide de notre temps.

Charles Boyer Suivre cet auteur Professeur honoraire de philosophie

Dernière publication diffusée sur Cairn.info ou sur un portail partenaire

***********

  1. « Un pouvoir moyen »
  2. « La nécessité du système représentatif »
  3. « Le mal l’emporte »
  4. « Ce dangereux supplément »
  5. « Contre-démocratie » et « impolitique »
  6. « Le trésor perdu »
  1. سلطة وسطى
  2. « في ضرورة النظام التمثيلي« 
  3.  » انتصار الشر « 
  4. « يا لها من إضافة خطيرة
  5. « مناهضة الديمقراطية » و « سوء التدبير »
  6. « الكنز المفقود »

قد تكون هذه الأزمة مثلما بيّن ذلك المؤرخ « بيير روزانفالون « ، مكوّنا جوهريا  للديمقراطية التمثيلية. لذلك كتب في مطلع دراسته [الشعب المفقود، تاريخ التمثيل السياسيّ في فرنسا[1] ] أن « الديمقراطية تمثّل إشكالا من حيث المبدأ »، لأنّه « إذا كان مبدأ سيادة الشعب هو الأساس الواضح للسياسة الحديثة فإن تجسيده يبدو غير مضمون البتّة ». ولكي يكون الأمر واضحا، ننبّه إلى أنّ المشكل يتركّز حول « مسألة التمثيل بمعنَيَيْهَا: التكليف والتمثيل  « . – إذ نرى من جهة أولى أن الديمقراطية المباشرة   مستحيلة في مجتمع يكون كبيرا جدًا، وأنّ « مصطلح الديمقراطية التمثيلية  ، الذي برز منذ عام 1770″، يثير إشكالا بسبب عدم وضوحه: حيث يحيل بالنسبة إلى البعض إلى « ضرب من النظام الوسيط  » يجمع  بين سلطة الشعب والقيم الأرستقراطية »، في حين أنه يحيل بالنسبة إلى البعض الآخر إلى عمليّة « توزيع للأدوار »(أي إلى حكم الخبراء ).  – وتبرز من جهة ثانية (وهذا هو الجانب الذي يركّز عليه »روزانفالون » في هذا العمل) مشكلة « تشكيل الديمقراطية »، لأنه إذا كان الشعب هو صاحب السيادة، فإن السؤال هو  « كيف نحدّده وكيف نتعرّف عليه؟ فالصعوبة برمّتها تكمن في اتساع الفجوة بين المبدأ السياسي – المتمثّل في إقرار سموّ الإرادة العامة –  والواقع الاجتماعيّ ». إنّ »التكريس القانوني للفرد » هو الذي يجرّد المجتمع من أيّة « حقيقة جوهرية « ، ويُبطِلُ كلّ فكرة عن »انتظام اجتماعي عضويّ ». وهو ما أفرز « ذلك الطابع التواضعي والمجرّد للرابطة الاجتماعية ». يقول « روزانفالون » إن  » الشعب في الديمقراطية قد فقد صورته: فقَدْ فَقَدَ كل كثافة جسمية وتحوّل إلى مجرّد عَدَدٍ، بمعنى إلى قوة مكوّنة من أنداد، أو قل من فرديّات متكافئة تمامًا في ظلّ حكم القانون » – وهو ما تقع ترجمته عبر الاقتراعُ العامّ. وهنا يصبح السؤال هو التالي: كيف يكون « تمثيل » مجتمع الأفراد ممكنا ؟ وبالتالي، كيف يمكننا حلّ هذا « الإحراج الذي تعاني منه الديمقراطية »؟ ولكن إذا كان » روزانفالون » في كتابه من الثورة إلى يومنا هذا، يعيد النظر في مسار هذا « التمثيل السيّء » وفي المحاولات المختلفة لإيجاد حلّ لهذه المشكلة – اقتراع عام، أحزاب سياسية، نقابات عمّالية، إلخ. – ، فإنه يمكننا القول في هذا السياق إنّ «رسّو» كان مِن أوائل مَن فكّروا في الإشكاليات التي يطرحها التمثيل السياسي.

يتعلق الأمر بالنسبة إلينا إذن بإعادة قراءة «رسّو»، ولكن ليس من أجل طرح تأويل جديد لا يقع ضمن اختصاصنا، وإنّما بهدف محاولة التعامل مع أزمة التمثيل الحاليّة في ضوء نصوص المواطن السويسري («رسّو»)، بالانطلاق منها وحتى ضد ما جاءت به. وبعبارة أدقّ فإن الأمر يتعلق بإعادة قراءة الكتاب الثالث من العقد الاجتماعي (لا سيما الفصل 15 منه) وكذلك الجزء السابع من الاعتبارات المتعلّقة بحكومة بولونيا ومشروع إصلاحها. فهما النصّان الأساسيّان، على ما يبدو، في العلاقة بهذه المسألة، حيث يبدو «رسّو» في الظاهر متناقضا. فهو من جهة أولى – مثلما نعلم – نجده يرفض فكرة الديمقراطية التمثيلية لصالح الديمقراطية المباشرة، ولكنه من جهة أخرى يبدو قابلا بها باعتبارها شرّا لا بدّ منه. غير أن ذلك ليس سوى تناقض ظاهريّ في نظرنا مثلما سنحاول بيانه: فرغم أن كتاباته تستطيع أنّ تضلّلنا، إلاّ أنّ فكره في الحقيقة أكثر تماسكًا مما يظهر حول هذه النقطة. ومهما يكن من الأمر، فإننا في معرض نصّين يتميّزان رغم كل التأويلات الممكنة بمعالجة ما يمثّل بالنسبة إلينا  أحد التحدّيات الرئيسية لعالمنا الديمقراطي.

« سلطة وسطى  »

إن أوّل ما يعترضنا عند قراءة الكتاب الثالث من العقد الاجتماعي[2]، هو التأكيد التالي: « إذا أخذنا المصطلح في المعنى الدقيق للكلمة، فإنه لم يسبق أبدا أن وُجِدت ديمقراطية حقيقية، بل إنها لن توجد إطلاقا. ذلك أنه من المخالف للنظام الطبيعي أن يقوم العدد الكبير بالحكم، في حين يكون العدد الأصغر محكوما« . ثمّ يضيف: « إذا افترضنا وجودَ شعب من الآلهة، فإنهم سيحكمون أنفسهم ديمقراطياً. فالحكومة المثالية لا تتلاءم مع حقيقة البشر » (III، 4). نرى إذن منذ البداية أن الموقف القائل إنّ «رسّو» مفكّر يحنّ إلى الديمقراطية المباشرة القديمة يمثّل في أقل التقديرات حكما إشكاليّا. ف»رسّو»، مثل « مكيافيلي » من قبله، يريد أن يكون واقعيًا: هو يرى أن كلّ حكومة هي حكومة أرستقراطية، رغم أنه كان يدعو إلى الأرستقراطية الانتخابية – ويرفض الأرستقراطية الطبيعة والوراثية – لأن « النظام الأفضل والأكثر انسجاما مع الطبيعة هو أن يقوم من هم الأكثر حكمة بحكم الكثرة »، ورغم كونه يستدرك قائلا:  » شرط أن يكون المرء على يقين من أنهم (أي الأكثر حكمة) سيحكمونها (أي الكثرة) لمصلحتها وليس لمصلحتهم. »(III, 5). وهو ما يعني أن «رسّو» ليس فيلسوفا مثاليّا حالمًا. فبناء على طرحه مثلما هو معلوم لفكرة الفصل بين السلطة التشريعية (الشعب) والسلطة التنفيذية (الحكومة) منذ الفصول الأولى، فإن الديمقراطية بالمعنى الدقيق للكلمة تمثّل بالنسبة إليه أمرا مستحيلا بموجب النظام الطبيعي للأشياء. ولكن إذا كانت كلّ حكومةٍ حكومةً أرستقراطية حسب النظام الطبيعي للأشياء أيضا – أي سلطة « الحكماء »- فإن مثل هذه الحكومة تطرح مشكلا: إذ ما الذي يضمن أن يكون « الحكماءُ » حكماءَ؟ أي ما الذي يضمن أن النخبة التي تكون في السلطة ستحكم من أجل المصلحة العامة، بمعنى أنها لن تكون شيئا آخر عدا كونها « خادما » لدى صاحب السيادة (III, 1 ) ؟ لا يتوقف «رسّو» في هذا الكتاب عن التأكيد على أنه إذا كانت « الدولة موجودة بذاتها، وأن الحكومة لا توجد إلا بفضل صاحب السيادة » (III, 1)، فإن ذلك لا يمنع من أنّ الحكومة تشكّل « ما يشبه هيئة جديدة داخل الدولة »، وعلى أن ذلك يندرج هو الآخر ضمن النظام الطبيعي للأشياء. وبالفعل فإن شرط وجود الحكومة هو أن تكون « قائمة بذاتها » وذات « كيان مستقل »، ممّا يثير صعوبة الرّبط بين إرادتها الخاصّة والإرادة العامة التي يجب أن تخضع لها. لذلك يقرّ أنه « في ظلّ تشريع مثاليّ، يجب أن تنعدم الإرادة الخاصة أو الفردية، وأن تكون إرادة الجسم الخاص للحكومة خاضعة، ومن ثمّة تكون الإرادة العامة أو السّيادية هي دائمًا المهيمنة والقاعدة الوحيدة لجميع الإرادات الأخرى » (III, 2). غير أننا هنا في معرض الحديث عن المثل الأعلى (أي عن »تشريع يكون مكتملاً » )، أي عن الحكومة المثالية التي لا تتناسب إلّا مع الآلهة مثلما رأينا. فإرادة الجسم الخاص بالحكومة في عالم البشر لا تخضع للإرادة العامة التي تفقد بذلك هيمنتها. إنّ ذلك هو ما جعل «رسّو» يخصّص ثمانيةَ فصول لتحليل العلاقة بين الحكومة والسيادة.

ما يثبته «رسّو» إذن هو أن ما نسمّيه « الديمقراطية » هو شكل من أشكال الحكم باسم الشعب يمثل إشكالا بحكم طبيعته نفسها، فـ « بما أن الإرادة الخاصة تعمل باستمرار ضد الإرادة العامة، فإن الحكومة ستبذل جهدًا مستمرًا ضد السيادة ». بل إنّ «رسّو» يذهب إلى حدّ الحديث عن « رذيلة متأصّلة وحتمية » (III, 10).  ففي النظام الطبيعي للأشياء تقوم النخبة بحكم الكثرة، حيث تميل هذه النخبة إلى وضع مصلحتها الخاصة فوق المصلحة العامة. بل إن ذلك هو سبب « رعب » القادة من تجمُّع الناس، وما يجعلهم يقومون بكل شيء « لمنع المواطنين من ذلك « ، لأنه  » عندما يتجمّع الشعب بشكل شرعيّ في صورة هيئة ذات سيادة، تتوقف كل ولاية قضائية للحكومة، ويتمّ تعليق السلطة التنفيذية… « ( III, 14). من المؤكد أن هذا التجمع ليس أمرا مستبعدا في نظره (III, 12)، ولكن ليس من قبيل المصادفة أنّه يطرح في نهاية الفصل 14، تلك الوضعيّة التي تنشأ فيها  » سلطة وسطى » بين « السلطة السيادية والحكومة التعسّفية » هي سلطة الممثّلين ، حيث تبرز ثلاث سلطات لا تنفصم وتكون في توتّر دائم: الشعب صاحب السيادة والممثلون  والحكومة. وبذلك نكون في قلب « أزمة التمثيل » التي تهزّ حداثتنا الديمقراطية.

في ضرورة النظام التمثيلي:ـ

حان الوقت إذن كي نتابع بدقة الفصل 15 الذي يعالج فيه «رسّو» سؤالنا بصورة مباشرة. يبدأ هذا الفصل بما يمكننا اعتباره وصفا للعالم البرجوازي، أي لهيمنة ما يسميه بـ « المالية« . فهو يؤكّد على حقيقة أن « الانشغال بالتجارة والفنون، وكذلك الرغبة الجشعة في الربح والسعي إلى الرخاء والرفاهية، هي ما يحوّل الخدمات الشخصية إلى نقود ». وباختصار فإن »المواطنين » يمارسون هنا أعمالهم الخاصّة بدلاً من الانشغال بالخدمة العامة. ويرى مواطن جنيف » أن ذلك يتعارض مع مفهوم « الدولة الحرّة الحقيقية » — لأن « هذه الكلمة، « مالية » هي كلمة  يتداولها العبيد  وهي غير معروفة في إطار المدينةCité  » حيث يؤدي المواطنون واجباتهم و » ويضحون بأنفسهم من أجل ذلك ». ولكنّ « الدولة الحرة الحقيقية » هي الحالة المثالية التي « تتفوّق فيها الشؤون العامة على الشؤون الخاصة في أذهان المواطنين ». دليل ذلك هو تأكيده على أن الأمر يتعلق بـ « مدينة حسنة التدبير » (المرجع نفسه)، أي بدولة مثالية تتعارض مع « حكومة سيئة حيث تهيمن الرعاية المنزلية على كل شيء »، والتي يبدو للأسف أنها تتوافق مع ما هو واقع. وفي سياق الحديث عن هيمنة « المالية » تحديدا، يختتم «رسّو» هذا المقطع ببيان أن ظروفًا معينة – منها « ضخامة الدول »، التي هي ليست سوى عامل من بين العوامل الخمسة التي يُحصيها[3]،  » قد أدّت إلى تصوّر طريق يشغله نوابٌ أو ممثلينَ عن الشعب في المجالس الوطنية « . ويضيف: « هذا ما تذهب بعض البلدان إلى حدّ تسميته بالسلطة الثالثة Tiers-État. وبذلك يتم وضع المصلحة الخاصة للنظامين في المرتبة الأولى والثانية، في حين أن المصلحة العامة لا تكون إلا في المرتبة الثالثة ». ممّا يدل على أنّه رغم وجود أسباب موضوعية تبرّر بروز الممثلين، فإن النتيجة مخيبة للآمال في نظره.

ومهما يكن من الأمر، فإننا ندرك الآن بشكل أوضح الموقفَ الذي  يردّ عليه بنيامين «كونستان» في خطابه الشهير في « الأتيني رويال » في باريس سنة [4]1819 عندما ميّز بين حرّية القدماء وحرية المُحدثين بهدف إزالة الغموض الذي « تسبب في العديد من الشرور »، ولكن أيضًا من أجل أن يتسنّى « التمتع بمزايا حكومة تمثيلية ». فما هي هذه المزايا إذن؟ يتضح من كلامه أن الأمر يتعلق بالتّجارة التي « هي اليوم الحالة العادية  والهدف الوحيد والنزعة الكونية والحياة الحقيقية للأمم ». ومن ثمّة فإن «كونستان» يعتبر أن الاقتصاد بالنسبة إلى للمحدثين هو كالسياسة بالنسبة إلى القدماء: الليبرالية الحديثة في مقابل النزعة الجمهورية القديمة. وهذا هو ما لم يفهمه «رسّو»، على الرغم من تأكيد «كونستان» أن المستهدف أكثر بالنقد هنا هو « آبي دو مابلي  » [شقيق « كوندياك »، الفيلسوف والمؤرخ والدبلوماسي ، 1709-1785].

 في نهاية المطاف، تبقى الحقيقة بالنسبة إلى «كونستان» أنه إذا كانت الحرّية الفردية هي « الحرّية الحديثة الحقيقية »، فإن « هذه الحرّية تحتاج إلى منظومة أخرى غير تلك التي يمكن أن تناسب الحرّية القديمة. ففي هذا الصنف الثاني، كلّما كرّس الإنسان وقتًا وطاقة أكبر لممارسة حقوقه السياسية، كلما شعر بحرّيته. أمّا في صنف الحرّية الذي ينطبق علينا، فإنه كلّما تقلّص زمن ممارسة حقوقنا السياسية كي نهتمّ بمصالحنا الخاصة، كلّما تضاعفت قيمة الحرّية بالنسبة إلينا. ومن هنا، أيها السادة، تنبع ضرورة النظام التمثيلي« . يقرّ «كونستان» ذلك ولكن ليس بصورة سطحيّة: فهو يدرك ضرورة مراقبة الممثلين ويقرّ ضرورة »الاحتفاظ بالحق في عزلهم إذا خانوا وعودهم، وإلغاء السلطات التي قد يسيئون استخدامها « . فإذا كانت الحرّية الحديثة مختلفة عن حرية القدماء، فإن ذلك لا يعني بالنسبة إليه عدم وجود أي تهديد في النظام التمثيلي، بل إن ذلك لا يعني أن صنفا الحرّية متناقضان لأنه يحثّ جمهوره في المقابل على عدم التخلي عن الحرّية السياسيّة، لا بل إنه يختتم محاضرته بالدعوة إلى « الجمع » بين هذين الصنفين من الحرّية.

من المفارقيّ إذن ألّا يكون ما يميّز «رسّو» عن «كونستان» هو « أزمة التمثيل » التي يبدو أنهما متّفقان حولها. بل إن « مارسيل غوشيه » يؤكد في نهاية مقدّمته (لكتاب «كونستان»: انظر الهامش 4 من هذا المقال) على حقيقة ما يقرّه «كونستان»  في نص آخر من ضرورة خلق سلطة « محايدة »، تكون « سلطة حافظة »  تتمتع (مستشهدا بكلام الكاتب) بالـ »قدرة على حل المجالس و إقالة المُوَكّلين على السلطة التنفيذية  » لتجنّب أي انحراف استبدادي أو طغيانيّ. وتبيّن هذه السلطة المستقلة، مثلما يعلّق على ذلك « مارسيل غوشيه »، أن كون السلطات نابعة من حق الاقتراع لا يكفي لقيام حرّية جمهورية. إذ لا بدّ من وجود سلطة للمجتمع على تلك السلطات التي تعبّر عنه ». هذه السلطة « تسهر بصورة أخرى، على حسن الانسجام أو قل على التطابق بين المجتمع وتمثيله … ». إن الاختلاف بين «رسّو» و«كونستان» يتعلّق بتصوّريهما للعلاقة بين الأفراد والمجتمع، حيث يمكن القول في المحصّلة إنه يتعلّق بتصوّر العقد الاجتماعي لديهما. ف»رسّو» يرى الأمر على أنه « تخلٍّ تامٍّ لكل شريك عن جميع حقوقه للمجتمع بأسره » (1 ، 6) – حيث أنّ ذلك لا يدلّ على عقدٍ حقيقيٍّ[5]، في حين أنّ «بنيامين كونستان» ينظر إلى الأمر من زاوية توافق الأفراد على التمتّع بحرّياتهم والعيش معًا، وهو ما يولّد الحاجة إلى تفويض السلطة السياسيّة للبعض (تحت المراقبة).

 ولكنّ هذه الضرورة هي التي تطرح إشكالا في نظر «رسّو». فهو يواصل استدلاله في الفقرة 5 من هذا الفصل 15 الذي نتطرّق إليه هنا، قائلا (وهو ما لا يتمّ التمعّن فيه عادة) : « لا يمكن تمثيل السيادة للسبب نفسه الذي يفسّر عدم إمكان التخلّي عنها ». وفي نهاية هذه الفقرة نفسها يعترضنا نقده الشهير للنزعة البرلمانية الإنجليزية: فـ »الشعب الإنجليزي يعتقد أنه شعب حرّ، والحال أنه مخطئ تماما في ذلك. فهو ليس حرّا إلّا أثناء انتخابه لأعضاء البرلمان. ولكنه بمجرد أن يقوم بانتخابهم يصير عبدا، أي لا شيء، حيث يكون استخدامه لحرّيته في لحظاتها القصيرة تلك، سببا لفقدانه لها ». ممّا يكشف عن إدانة تبدو حاسمة للديمقراطية التمثيلية حيث يتمّ تجاهل الجمل غير المهمّة. غير أنه بالعودة إلى بنية النص المنطقية، سنجد أنه يتحرك وفق ثلاث مراحل:

 1. إن السيادة المتمثلة في الإرادة العامة لا يمكن تمثيلها،

 2. وذلك هو السبب في أن النواب ليسوا ممثلين للشعب، « هم فقط مفَوَّضُوه »[6]،

3. وهو ما جعل الإنجليز يتوهّمون أنّهم أحرار، والحال أنهم يتحوّلون إلى عبيدٍ بمجرّد انتخابهم لممثليهم.

بهذا الوجه يتضح أن «رسّو» لا يبشّر بالديمقراطية المباشرة، ولكنه يؤكّد على ضرورة أن يكون النوّاب في خدمة الشعب صاحب السّيادة. وهو ما يفسّر انتهاء الجملة بـ: « لا يمكنهم أن يقرّروا أي شيء بشكل نهائي ». ويضيف: « كل قانون لم يصادق عليه الشعب بنفسه هو قانون باطل. إنه ليس بقانون البتّة ».

 وهذا أيضًا هو سبب استمرار الفقرة التالية منطقيًا في معالجة « فكرة المُمَثّلين »، التي هي مفارقيّا فكرة « حديثة » « موروثة عن الحكم الإقطاعي ». يبدو أن «رسّو» يعيد وضع معاصريه « المحدثيين » في مكانهم الطبيعي، أي في الموقع المقابل للنموذج القديم: ففي ذلك النموذج، » لم يكن للشعب ممثلين البتّة، بل لا أحد كان يعرف هذه الكلمة »[7]. صحيح أن بقيّة النص تؤكد إدراكه أنّ الأمر لم يكن على تلك الدرجة من البساطة في روما (حيث « كان الـقادة يمثّلون الشعب في بعض الأحيان »)، ولكن الشيء الرئيسي هو كونه يبيّن مع ذلك أنّ « الحكومة تمثل صاحب السيادة » أي تمثّل الشعب المشرّع في السلطة التنفيذية، وبالتالي فهي تُنفّذ قوانينه (= قوانين الشعب). وإذا لم يوجد بين اليونانيين حرس شرف أو خطباء  , ، فإن تلك الديمقراطية المباشرة كانت تبرّرها ظروف خاصّة، ألا وهي أن الشعب كان « يعيش في مناخ معتدل، ولم يكن جشعا، وأنّ العبيد كانوا منقطعين إلى عملهم. فقد كان الهدف الأسمى للشعب هو حريته »، ممّا يدلّ على أن الديمقراطية المباشرة اليونانية القديمة غير قابلة للتصدير. و »بما أننا لم نعد نتمتع بنفس المزايا »، فإنّ «رسّو» يطرح علينا السؤال التالي: « كيف يمكننا أن نحافظ على نفس الحقوق؟ » بما أنّ جنيف أو باريس أو لندن ليست أثينا القديمة، يجب علينا الاعتراف بأنه « لا يمكن الحفاظ على الحرّية إلا بالارتكاز على العبودية » ، أي أنه لا يمكننا الحفاظ عليها إلّا من خلال النّظام التمثيلي المحبّذ لدى الإنجليز وفولتير. هناك حجّة أخرى توجد في كلام «رسّو» التالي: « بالنسبة إليكِ أيتها الشعوب الحديثة، لم يعد لديك عبيد [مثلما كان الأمر في سبارتا]، ولكن العبيد هم أنت . يمكنكِ أن تتباهَيْ بهذا الاختيار، أمّا أنا فأرى في ذلك جبنا أكثر مما أرى فيه علامة على الإنسانية ». ولم يعد الأمر يتعلّق بالشعب الإنجليزي فقط وإنما بالشعوب الحديثة كلّها. إنّها إحدى مميّزات حداثتنا في نظر «رسّو». وهو ما يفسّر إضافة التوضيح التالي: « أنا لا أفعل سوى أنني أبيّن الأسباب التي تجعل للشعوب الحديثة مُمثلين في حين أنها تتوهّم كونها شعوبا حرّة... » – ولكنّنا عادة ما لا نركّز إلاّ على بقيّة المقطع حيث يقول: « مهما يكن من الأمر فإن الشعب يفقد حرّيته، ويصبح لا شيئا، منذ اللحظة التي يعيّن فيها نوّابا عنه »، ذلك أن الشعب – وهو ما يجب إضافته هنا –  (يصبح) محروما من القدرة التشريعية التي تجعل منه شعبًا ذا سيادة. ومن ثمّة ينبغي التذكير بأنّ المسألة لا تتعلق بالحلم بديمقراطية مباشرة، التي من المؤسف أنها تمثّل أمرا مستحيلا اليوم، بل بمعالجة المشكل الحقيقي الذي تواجهه الشعوب الحديثة: ألا وهو مشكل التمثيل، وكيفية التصرّف كي لا يقوم الممثلون بتجريد الشعب كلّيا من سيادته. هنا تكمن المشكلة. بل إن الفصول الثلاثة الأخيرة من هذا الكتاب الثالث ستؤكد على حقيقة أن ما يؤسّس الحكومة، ليس « عَقدًا بل قانونًا »، وهو ما يعني أن الحُكّامَ ليسوا ممثلين للشعب وإنما هم « قادة » يستخدمهم. إنّ عبارة « مفوضون » أو »قادة » تعني كونهم مجرّد أشخاص مكلّفون بوظيفة – السلطة التنفيذية – التي ينبغي أن يُحَاسَبُوا عليها من قبل الشعب صاحب السيادة، ذلك الشعب الذي عليهم طاعته.

« انتصار الشرّ »

     يتعلّق السؤال من هنا فصاعدا بكيفية مراقبة المُمثّلين من خلال تدابيرٍ مناسبة. نحن نعلم أنه في الاعتبارات المتعلّقة بحكومة بولونيا[8]، سيحاول «رسّو» في القسم المخصص لـ وسائل الحفاظ على الدستور، أن يحدّ من أضرار ذلك إن جاز التعبير، وذلك من خلال تركيزه على معالجة مثال بولونيا الذي اشتغل عليه في العقد الاجتماعي. ودون الخوض في تفاصيل وضع هذا البلد الجيو-سياسي في تلك الفترة[9]، نجده يقرّ بأن المشكل التي يتعيّن حلّه هو التالي: كيف نتجنّب الانحرافات الاستبداديّة التي يحدثها « تقاسم السلطة التنفيذية »، حتى وإن كانت  » كل هيئة مسؤولة عن السلطة التنفيذية – مثلما نرى ذلك في العقد الاجتماعي–  تنزع بقوة وباستمرار إلى إخضاع السلطة التشريعية، وكانت تتمكن من تحقيق ذلك طال الزمن أو قصر »؟. يعني ذلك أنّ الحلّ لا يكمن في تقسيم السلطة التنفيذية، لأن ذلك لن يغير شيئًا بشكل أساسي، بل في التصرّف بطريقة تجعل السلطة التشريعية (هي التي) « تُسَيِّرُ » السلطة التنفيذية. غير أنّه بالعودة إلى مسألة التمثيل، نجد أنّ  » سبب كل المشاكل التي تجعل الحفاظ على الحرّية في الدول الكبرى مستعصيا، هو كون السلطة التشريعية عاجزة عن فرض نفسها ولا يمكنها التصرّف إلا من خلال التفويض . صحيح أنّه « يوجد في ذلك مساوئ ومحاسن، غير أن ما يتغلب في النهاية هو المساوئ « . عبارة « لا يمكنها » مهمّة هنا: فـ»رسّو» لا يطلق هنا حكما، بل هو يُعايِنُ حقيقةً. وتظلّ الحقيقة هي أن « الشرّ ينتصر« ، وهو ما سنعود إلى دراسته. دعونا إذن نُكْمِلُ: « إنّ المشرّع [الشعب] باعتباره كذلك، يستحيل إفساده، غير أنه يسهل خداعه. أما ممثّلوه فمن الصعب خِداعهم ولكن من السهل إفسادهم، ونادرا ما لا يحصل ذلك [أي إفسادهم] « . هذه الجُمَلُ معروفة، غير أنه لا يمكننا إلاّ أن نتوقف عند التقاطع الذي يوظّفه «رسّو» بين الإفساد/الخداع   والمشرّعين/الممثلين : فإذا كان الشعب صاحب  السيادة غير قابل للإفساد من حيث « المبدأ »  – أي بغض النظر عن وجود هيئة سياسية من عدمه – فإنه بالإمكان خداعه دائما، أي جعله يظنّ أن هناك من يدافع عن المصلحة العامة في حين يكون الواقع عكس ذلك. وهو ما يفسّر « صعوبة خداع المُمَثِّلِين » أنفسهم لأنهم هم من يخدع الشعب – ولكنهم يسهل إفسادهم بسبب ميلهم إلى وضع مصالحهم فوق المصلحة العامة. الجميع يعرف مقولة »اللورد أكتون Acton  lord» الشهيرة: « إن السلطة تميل إلى الإفساد، والسلطة المطلقة تُفسد بشكل مطلق ». إنّ ذلك هو ما يولّدُ في نظر «رسّو» الحاجة إلى اتخاذ تدابير لمنع الفساد « الذي يجعل من أداة الحرّية [أي السلطة التشريعية] وسيلة للاستعباد ». لا بد من جهة أولى أن يتمّ تغيير المجالس (التمثيليّة) باستمرار عبر تغيير المُمثلين، ولا بدّ من فرض قيود على تجديد فترات شغل الممثلين للمنصب. ومن جهة ثانية لا بد من التفويض الوجوبي ومن المحاسبة على التفويض. لذا فإن الأمر يتعلّق بالتنظيم الصارم للحياة البرلمانية وتجنّب « المناقشات غير المجدية » وضغط مجلس الشيوخ الذي يمثل « هيئة خاصة داخل الدولة ».

 وبذلك يكون المشكل السياسي الحديث مشكلا مضاعفا: لا يتعلق الأمر فقط بكون السلطة التنفيذية تميل إلى « إخضاع السلطة التشريعية »، بل بكون ممثلي الشعب غالبًا ما يكونون فاسدين. ذلك هو ما يقتضي تعميق التفكير في المؤسسات اليوم.

« يا لها من إضافة خطيرة  »

 « بما أنّ الشرّ يتّخذ دائمًا شكل الاغتراب التمثيلي وشكل التمثيل في وجهه الانتزاعيّ ، فإن كل فكر «رسّو» هو نقد للتمثيل  بالمعنى اللغوي والسياسي في آن معا. هذه هي الطريقة التي عبّر بها «درّيدا» عن تصوّره للمسألة في علم النحو[10] ، والتي استندنا إليها هنا[11] خاصة من خلال تحيين « مفهوم الإضافة » الذي استخدمه ببراعة مفتاحا لقراءة المقال حول أصل اللغات.  وفعلا  فإن «درّيدا» يسلّط الضوء في الفصل الثاني من كتابه على دلالة هذا المفهوم من أجل فهم فكر «رسّو» شارحًا بذلك مَعْنَيَيْهِ: فمن ناحية  تنضاف « الإضافة » مثلما تأتي التقنية لتكمّل الطبيعة (الناقصة)، ولكنها (أي الإضافة) من ناحية أخرى، تحلّ محلّ (الشيء)، أي « تتدخل في، أو تتسلّل إلى مكان ما ». فهي لا تُكَمِّلُ مثلما يحلّ الاستمناء الذي يحبّذه «جان جاك» محلّ الفعل الجنسي. ومن ثمّة فإن الديمقراطية التمثيليّة سياسيّاً تأتي لتملأ فراغا: ذلك الفراغ الذي خلّفته استحالة الديمقراطية المباشرة المثاليّة. إلاّ أنها بمجرّد أن تأتي، تكفّ عن أن تكون ديمقراطية بالمعنى الدقيق للكلمة. فالتمثيل باعتباره إضافة لا يمكنه إلاّ أن يكون غير مُرْضٍ: إنه نظام أزمة تحكمه توتّرات دائمة بين السّلطات الثلاث. فحسب «درّيدا»، سواء أكانت الإضافة « تنضاف إلى » أو أنها كانت « تحلّ محلّ الشيء »، فإنّها خارجيّة (دائما)، بمعنى أنها توجد خارج الإثبات الذي تنضاف إليه. أي أنها غريبة عن الشيء الذي لا يمكنها أن تحلّ محلّه إلا لكونه غيرها. » ومثلما يرد في قواميس اللغة، فإنه خلافا للـمُكَمِّلِ  ، تكون الإضافة « جمعا خارجيّا » « .  لكنّ سلبية الشرّ حسب «رسّو»، تكتسي دائما صورة فعل الإضافة (الخارجية) . إنّ الشرّ خارجي بالنظر إلى الطبيعة، أي بالنظر إلى ما يكون بطبيعته بريئا وخيّرا … » ينتصر الشرّ على وجه التحديد لأن النظام التمثيلي يميل إلى تجريد الشعب عبر فعل خارجيّ من سيادته، أي من السلطة التشريعية، بمعنى من التعبير عن الإرادة العامة التي لا يمكن تمثيلها مثلما هو معلوم.ـ

addition extérieure » (Robert)

وبذلك يكون «درّيدا» قد سلّط الضوء على « مفارقة الإضافة » :ـ

« le paradoxe du supplément »

« كان يجب أن يكون الأصل نقيًا ». فـ »ما الذي يقوله «رسّو» دون أن يكون قد قاله حقا، ما الذي يراه دون أن يكون قد رآه؟ إنه كون الإضافة كانت دوما في بداية لا تنتهي .ـ

Que la suppléance a toujours déjà commencé ».

  يقول »مارك غولدشميت«[12]  تعليقًا على هذه الصيغ: إنّه « لا بدّ من الاتفاق على التفكير في مفارقة إضافة لا تمثل إضافة لأيّ شيء، أي في الفكرة الجنونية لما يأتي أوّلاً وهو في المرتبة الثانية ». وبعبارة أخرى، وفي ما يخصّ موضوعنا، يجب القبول بكون الديمقراطية التمثيلية لا تُعوّض   الديمقراطية المباشرة حقّا لأن الأخيرة لم توجد قطّ في الواقع [فنحن لسنا آلهة]، حتى وإن كان ذلك هو السبب الذي جعلنا لا نتوقف عن الحلم  منذ ذلك « الأصل » المَتَخيّلِ. ثمّ إنّ هذا هو ما جعل »مارك غولدشميت« يقول أيضًا إنّنا نجد أنفسنا مع مفهوم الإضافة أمام « ما  يهب فكر «رسّو» تماسكه في الوقت نفسه الذي يجعله فيه غير مستقرّ ومتناقض ».ـ

« مناهضة الديمقراطية » و « سوء التدبير »

 ومهما يكن، فإن ما يعلّمنا إيّاه «رسّو» هو أنه لا وجود سوى لـ »أزمة تمثيل »: ونحن محكومون بها لأن العلاقات بين الشعب صاحب السيادة والممثلين والحكومة لا يمكنها إلّا أن تكون علاقات صراع. إن الحلم بديمقراطية سلمية وتوافقية ليس سوى حلم « كُليانية ناعمة،

« despotisme doux »

وربّما كان حلم ذلك « الاستبداد الناعم »

totalitarisme soft

الذي تحدّث عنه « توكفيل ». بقي أنه لأزمة التمثيل أثر عميق جعل »بيير روزانفالون« يطرح مسألة « مناهضة الديمقراطية »[13] وجعله يقوم بتحليل الدور الذي يلعبه انعدام الثقة في الديمقراطيات. فهو يقرّ أنه طالما كان « تاريخ الديمقراطيات القائمة فعلا لا يخلو من توتّر ومن احتجاجات دائمة »، فإن « ما وقع العمل على تحقيقه هو تحسين الديمقراطية الانتخابية« . ففي غضون ذلك نشأ نظام يهدف إلى « التعويض عن تآكل الثقة من خلال تنظيم ظاهرة انعدام الثقة« . وهنا يقوم بالتمييز بين « طريقين رئيسيين » لانعدام الثقة: انعدام الثقة الليبرالي الذي يقتضي أن تحدّ السلطة من السلطة (« مونتسكيو » ، «كونستان»)، وانعدام الثقة الديمقراطي الذي « يهدف إذن إلى ضمان بقاء السلطة المنتخبة وفيّة لالتزاماتها » («رسّو»). إن وما يقوم بدراسته هو انعدام الثقة الديموقراطي هذا حيث يتجلى ذلك حسب قوله وفقًا لـ  » نظم رئيسية ثلاث: سلطات المراقبة، وأشكال المنع، واختبار الحكم ». – الأول « يساهم في ترسيخ الشرعية الانتخابية في الشكل الأوسع للشرعية الاجتماعية التي يشكلها رصيد السّمعة لدى شخصٍ أو نظامٍ مّا » – والثاني يمثل « سيادة اجتماعية سلبية »

« souveraineté sociale négative »

مثل الحصول على سحب مشروع قانون – أمّا الثالث فهو « تقنين السياسة »

« la judiciarisation du politique »

عندما تحلّ المحاكمات محل الانتخابات. ومن هنا يخلص إلى الاستنتاج التالي: « إنّ صورة الشعب المراقِب

peuple-surveillant

شعبُ النقضِ

peuple veto

والشعب القاضي،  قد فرضت نفسها بشكل متصاعد الفاعلية على شعب العقد الاجتماعي الناخب. إننا بذلك أمام « نشاط ديمقراطي »  يقوّض « أسطورة المواطن السلبي » .

ثم نجده يقرّ فضلا عن ذلك أنّ:  » المشكل المعاصر ليس مشكل السّلبية، بل مشكل سوء التدبير، أي مشكل انعدام فهم شامل للمشاكل المرتبطة بتنظيم عالمٍ مشتركٍ »، بما يعني اتساع المسافة بين المجتمع المدني والمؤسسات. فهي [أي مختلف صور مناهضة الديمقراطية] ترسم بذلك نوعًا من السياسة المضادة قائمة على المراقبة والمعارضة، والتقليل من قيمة السلطات التي لم يعد التغلّب عليها يمثل أولوية « . يؤدي ذلك إلى تفكيك « تعبيرات الانتماء إلى عالم مشترك » وإلى انحرافات يشكل النزوع الشعبوي حسب رأيه حالتها المرضية الأشد خطورة. في ظل هذه الظروف، يتمثل الهدف في « إعادة تأهيل » ممارسة انعدام الثقة، لكونها في عمقها عملية ليبرالية وديمقراطية في الوقت نفسه. لكنها بذلك إعادة تأهيل واضحة، ومنتبهة إلى انحرافاتها المحتملة ». يتعلق الأمر إذن بالتأكيد على الطرق الجديدة للديمقراطية التمثيلية الانتخابية (التشاركية والتداولية)، وبتقوية مناهضة الديمقراطية، وبإعادة تسييس الديمقراطية لأن « الحكومة التمثيلية الانتخابية والديمقراطية المضادة والعمل الفكري والتداولي للسياسي، تشكّل الركائز الثلاث للتجربة الديمقراطية ».

« الكنز المفقود »

من خلال السعي إلى إعادة تأهيل « مناهضة الديمقراطية، يمكننا القول إنّ دراسات «بيير روزانفالون» تواصل بصورة مّا تحليلات «رسّو»، حتى وإن كان فيلسوفنا يفكّر في اتخاذ تدابير صارمة – التفويض الإلزامي على وجه الخصوص – من أجل محاولة حلّ مشكلة التمثيل، خلافا للمؤرخ المعاصر الذي يبدو أكثر « ليبرالية ». ما يميّز بينهما حسب رأينا هو أن حكم الفرد وحقوقه اللذان يميّزان « حداثتنا » لم يكونا قد تطورا بعد في زمن «جان جاك». وهو سبب التركيز من قبل «روزانفالون» على الخسارة والبحث عن « العالم المشترك » الذي تحبّذه «حنا أرندت»، رغم أن «آرندت» كانت شديدة النقد للنظام التمثيلي: يكفي لإدراك ذلك قراءة الجزء الأخير من مقالها عن الثورة[14] الذي تتناول فيه بإسهاب من وجهة نظر تاريخية وفلسفية مسألة التمثيل السياسي.

في الحقيقة، ودون الإصرار على العودة إلى المراجع التاريخية  (حيث تهتم «آرندت» بالتقاليد الثورية، أي بكومونة باريس في 1870، وبالثورة الروسية في 1905 وبثورة فيفري 1917، وثورة سبارتاكيس بألمانيا 1918-1919 ، وثورة المجر سنة 1956)، يمكننا أن نتوقف في ما يخصّ موضوعنا، عند اعتبار «آرندت» أنّ « مشكلة التمثيل برمّتها، التي هي واحدة من أكثر المشاكل السياسية الحديثة إحراجا وصعوبة منذ قيام الثورات، لا يتضمّن في الواقع سوى إدانة للسّياسي في حدّ ذاته. إن الاختيار التقليدي بين التمثيل-التفويض

représentation-substitut

الخالص للفعل المباشر للشعب، والتمثيل-السلطة

représentation-pouvoir

الذي يراقبه الشعب، هو معضلة لا حلّ لها ». وبالفعل فإنه في الحالة التي تتم فيها مراقبة المسؤولين المنتخبين، لن يكون النواب أكثر من « وكلاء مأجورين للشعب »، و »ستتحول الحكومة إلى مجرّد إدارة، مما يؤدي إلى اندثار الشأن العام » نتيجة لانعدام فضاء عام للنقاش واتخاذ القرار. وهنا تصبح « الشؤون السياسية هي تلك التي تمليها الضرورة التي يقرّرها الخبراء « . أما في الحالة الأخرى، فإن « القول المأثور القديم  » إن كل سلطة تكمن في الشعب » ليس صحيحا إلا يوم الانتخابات »، لأن السلطة  ستمارسها النخبة، و »السلطة الوحيدة التي يحتفظ بها [الشعب] هي [وفق قول  »جيفرسون] » السلطة الاحتياطية  للثورة « 

« le pouvoir, en réserve, de la Révolution »

.. وتؤكد »آرندت« في هذا السياق على حقيقة أن الرّوح الثّورية تختفي بمجرّد انتهاء الثورة بسبب قيام ثوّار محترفين بتشكيل أحزاب سياسية: لقد كان كلّ من « النجاح الباهر لنظام الحزب والفشل الكبير لنظام « المجالس » [بالمعنى الواسع لهذا المصطلح، حيث يتعلق الأمر في جميع الثورات ببروز أجهزة تلقائية للشعب] نتيجة لظهور الدولة القومية »، وبالتالي نتيجة لأسباب تاريخية. ومهما يكن من الأمر، فإن « الصراع بين النظامين كان دائمًا يتمحور حول البرلمان الذي هو مصدر سلطة النظام الحزبي ومقرّها، في مواجهة الشعب الذي كان قد تخلّى عن سلطته ليسلّمها إلى ممثّليه ». تشيّد »آرندت« بالتحركات التلقائية [في الثورة]، أي بـتلك « المساحات الحرّة » حيث يكون الجميع  « مشاركين في إدارة الشؤون [العامّة] » وفق تعبير »جيفرسون». ولكنها تضيف أن ذلك يمثل « ضربا من الحلم الرّومانسي أو من اليوتوبيا الرائعة » سريعة الزوال بحكم الضرورة: حيث أنه (سرعان ما) تستعيد الحكومة التمثيلية التي هي جزء من الدولة القومية حقوقها. إن التعارض بين الأحزاب و »المجالس » يرقى في نهاية المطاف إلى التعارض بين « التمثيل المضادّ والمشاركة »- أمّا بالنسبة إلى »روزانفالون» فإنّ الأمر ليس كذلك لأنه لا يتعلّق برفض الديمقراطية التمثيلية بل بتحسينها لإيجاد « مخرج واقعيّ من أزمة فقدان السحر السياسي المعاصر  » –

désenchantement politique contemporain

وفي نهاية الكتاب تعترض »آرندت» بشدّة على الفكرة الشائعة القائلة إنّ جوهر السياسة هو السلطة، أي اعتبارها علاقة هيمنة، أو حكم النخبة للشعب، وأن « السياسة قد تحوّلت إلى مجرّد مهنة ورصيد مهني، حيث يكون كنز الروح الثورية قد اندثر بالفعل. لذلك يقول الشاعر »رينيه شار» الذي تحبّذ »آرندت» اقتباس أقواله: « إن تراثنا لا يستند إلى أيّة وصيّة ».

كان «رسّو» قد كتب قبل قيام الثورة الفرنسية: « إنّ الشر ينتصر ». ويبدو أن «أرندت» ، بعد التجربة الكليانيّة، وفي سياق مختلف جذريًا، تفكّر بالطريقة نفسها.


[1] 1. P. Rosanvallon, Le Peuple introuvable. Histoire de la représentation démocratique en France, Paris, Gallimard, 1998, coll. « Folio histoire », 2002.

[2] ■ 2. J.-J. Rousseau, Du contrat social, présentation par Bruno Bernardi, Paris, GF-Flammarion, 2001.

[3] « فتور حبّ الوطن، نشاط المصلحة الخاصّة، ضخامة الدّول، الغزو، انحرافات الحكومة… »

[4] 4. B. Constant, De la liberté chez les modernes. Écrits politiques, textes choisis, présentés et annotés par M. Gauchet, IV, De la liberté des anciens comparée à celle des modernes, Paris, Le Livre de poche, 1980, coll. « Pluriel ».

[5] 5. Comme le montre Yann Mouton dans « Le Contrat social à l’épreuve de la religion civile (Rousseau) », in J.-P. Cléro, T. Ménissier (dir.), L’Idée de contrat social. Genèse et crise d’un modèle philosophique, Paris, Ellipses, 2004, coll. « Philo ».

[6] يقول على وجه الدقة:  » ان نواب الشعب ليسوا إذن، بل إنّه لا يمكنهم أن يكونوا ممثليه. فهم ليسوا سوى مفوضيه… »

[7] رغم أنّ « مفكري القرنين السابع عشر والثامن عشر، حسب « برنار مانان، ( يتعلق الأمر بـ « هرينغتون »، مونتسكيو » و »رسّو ») يتصورون أن تعيين الممثلين عبر الانتخاب أقرب إلى التقليد القروسطي منه إلى التقليد الجمهوري »

(Bernard Manin: Principes du gouvernement représentatif, Paris, Flammarion, 1996, coll. « Champs », p. 121-122.)

[8] J.-J. Rousseau, Œuvres complètes, t. III, Du contrat social. Écrits politiques, Paris, Gallimard, 1964, coll. « Bibliothèque de la Pléiade »

[9] Voir les explications de Jean Fabre, p. CCXVI-CCXLV des Introductions de ce volume.

[10] J. Derrida, De la grammatologie, Paris, Minuit, 1967, coll. « Critique »

[11] هذا لا يعني أننا نتبنى أطروحة « درّيدا » التي يحللها في هذا العمل والقائلة إنه  » لا وجود لـ خارج النص

un hors-texte « .  

[12] M. Goldschmit, Jacques Derrida, une introduction, I, 2, Paris, Pocket, 2003, coll. « Agora ».

[13] P. Rosanvallon, La Contre-démocratie. La politique à l’âge de la défiance, Paris, Seuil, 2006 ; coll. « Point Essais », 2008.

[14] H. Arendt, Essai sur la révolution. VI. La tradition révolutionnaire et ses trésors perdus, trad. M. Chrestien, Paris, Gallimard, 1985, coll. « Tell »

Quitter la version mobile