La rencontre de Arwiqa-portiques avec le philosophe tunisien Fethi Triki

“النقد الموجّه للعقلانيّة الديكارتيّة الذي نجده عند فوكو” أو عند “ميشال سار” لا يعني رفض التنوير ورفض التوجّه العقلي في نمط فكرنا وعملنا

يسعد أسرة تحرير أروقة، مجلة الثقافة الفرنسية المعاصرة، أن تستضيف الفيلسوف التونسي فتحي التريكي الذي خاض مغامرة الوصل في تجربته الفكرية بين الفكر الفرنسي والفكر العربي، وكانت مؤلفاته كلّها تشهد على انشغال مستمر بالتواصل والاختلاف والحوار.ت

 الفيلسوف فتحي التريكي هو من مواليد 30ماي 1947  بمدينة صفاقس. حصل على دكتوراه في الفلسفة السياسية  وعلى دكتوراه الدولة في الفلسفة من من جامعة السوربون بباريس. ويعمل أستاذ كرسيّ اليونيسكو للفلسفة بجامعة تونس.  كان قد ساهم صحبة “ جاك دريدا في بلورة  فلسفة التعايش والتعقّلية وفي طرح فكرة تقاسم الكونية. شغل منصب عميد كلية الآداب والعلوم الانسانية بصفاقس من 1990 إلى 1996 وعُين في كرسيّ اليونسكو للفلسفة بالوطن العربي في 1997. ثم عمل أستاذا زائرا بجامعة ديوك بالولايات المتحدة في 1999 وبجامعة باريس 8 في فترات متباعدة زمنيا سنتي 2000 و2007. وألف 28 كتابا آخرها الذاكرة والمصير.ت

محمد عادل مطيمط: أستاذ فتحي، هل يمكننا اعتباركم امتدادا فكريا لثورة فلاسفة الاختلاف الفرنسيين؟ وهل ترون أنفسكم في الطريق ما بين “السوربون” التي درستم فيها، وهي تحمل شعلة الفكر الكلاسيكي الأكاديمي، و”باريس 8″، التي درّستم فيها يوما مّا، وريثة فلسفة الاختلاف ؟ إلى من يدين فتحي التريكي بالقسط الأكبر من الاستلهام في تجربته الفكريّة، إلى “روني ديكارت” أم إلى “جيل دولوز”؟

فتحي التريكي:ت

طبعا يكون التكوين فاعلا في الاختيارات الفكريّة والمواقف الإيديولوجية. فقد كان تكويني أساسا وأوّليا في الجامعة التونسية وكان تدريس الفلسفة فيها متنوّعا يعتمد مدارس فلسفية مختلفة. فقد كانت المدرسة الماركسية حاضرة كما تمّ فيها تدريس الفلسفة الأمريكية والإنجليزية والفلسفة الألمانيّة (كانط والكانطيين وهيغل ونيتشة وهايدغر). كذلك تعرّفنا على الفلسفة الفرنسية المعاصرة (سارتر ومرلو بونتي وريمون آرون على سبيل المثال). ولكنّ الحدث في رأيي هو انتداب ميشال فوكو من سنة 1966 ألى سنة 1968 للتدريس بقسم الفلسفة. فانفتحت آفاقنا وتعرّفنا على نوع جديد من التفكير ثمّ درّس بعده جيرار  لبرون المختص في الفلسفة الألمانية. في تلك الفترة كنتُ مثل الكثير من أبناء جيلي ماركسيّا في منهجيّة تفكيري، وضمن التوجه الماركسي اخترت دراسات لوي ألتوسير الذي تابعت دروسه في مدرسة نهج أولم بالحي اللاتيني بباريس فيما بعد عندما زاولت دراستي الجامعية في مرحلتها الثالثة بباريس. كذلك في باريس تابعت دروس فرنسوا شاتلي الذي قد تعرّفت عليه بتونس سنة 1967 ودروس جيل دولوز بجامعة فانسين آنذاك دروس جاك دريدا في المدرسة العليا نهج أولم. أمّا في جامعة الصربون فقد تابعت دروسا عديدة لكبار الفلاسفة مثل ديسنتي وهيلين فيدرين وسلامولنس وغيرهم. هكذا كان تكويني متنوّعا في جلّ الاختصاصات تقريبا. فأنا امتداد لهذا التنوّع لا محالة وامتداد طبعا لثورة فلسفة الاختلاف الفرنسية التي أثّرت في مسيرتي الفلسفيّة. وعندما عدت إلى تونس وبدأت تدريسي بالجامعة اكتشفت الفيلسوف الإنجليزي كارل بوبر وقرأت كتبه وكتبت عنه مقالا نشرته بمجلة الكلّية وقد اطلع عليه بوبر نفسه وكانت ملاحظته أنّه سعيد بأن يكتب عنه باللسان الفرنسي ويبدو أنّ مقالي أواخر السبعينات كان من أوّل الدراسات التي كتبت عنه باللغة الفرنسيّة. وبذلك أضفت بعدا جديدا لفلسفة التنوّع وهو الانفتاح. فلو تعمّقنا قليلا في فلسفة الاختلاف الفرنسية لوجدناها سجينة الفكر الأوربي والغربي ولم تكن منفتحة بما فيه الكفاية على العالم وعلى الحضارات الأخرى. فإضافة بعد الانفتاح مهم جدّا لأنّه يقوم بتوسيع حقل التفلسف. ولم يكن ذلك ممكنا مع فوكو ودرّيدا وغيرهما لأنهم كانوا ينظرون إلى أمريكا شمالا وجنوبا وقلّما اهتمّوا بالحضارات الأخرى. لذلك سمّيت فلسفة التنوّع التي اعتمدتها بالفلسفة الشريدة أحيانا لأنها ترفض الحدود الثقافية وبالفلسفة المفتوحة أحيانا أخرى لأنها تحتفي بالفلاسفة في كلّ الحضارات وتعتمدهم وتتحاور معهم كما تتفاعل مع الثقافات الفكريّة في كلّ أنحاء العالم دون استثناء ودون التضحية بالتقنيات الفلسفيّة المعروفة. هكذا أدين إلى كلّ هؤلاء الأساتذة الذين تعلّمت عنهم معنى التفلسف كما أدين إلى الفلسفة اليونانية والفلسفة العربيّة وفلسفة ديكارت وإلى غيرها لا في تكويني الفلسفي فقط بل وأيضا في نمط حياتي ومناهج تفكيري.

محمّد عادل مطيمط: “فوكو” و”بورديو” و”دريدا”، هم أكثر الفلاسفة رواجا في الدراسات الجامعيّة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنهم لا يحظون إلا بمكانة ثانوية في فرنسا. كيف تفسرون هذه المفارقة؟.

فتحي التريكي:ت

كلّنا يعرف أنّ الفلسفة بفرنسا قد هيمنت عليها منذ القرن التاسع عشر صبغتها التاريخيّة. ومكثت تعاني في التدريس الجامعي ولاسيّما في السربون من تاريخها. لذلك لن تجد إبداعا فلسفيا كبيرا قد تبنّته الجامعات الرسميّة و يمكن اعتبار الفيلسوف بارغسون استثناء وقد تكمن أهمّية فلسفته في قدرتها على الإنعتاق من تاريخ الفلسفة وعلى إبداع المفاهيم والتصوّرات. ولكن الماركسيين الدغمائيين ساهموا بقدر وفير في تحطيم أركان هذه الفلسفة ولولا دولوز الذي فهم مقصدها وأعاد لها روحها لما اندثرت هذه المحاولة الجادة في الإبداع الفلسفي. ومما زاد الطين بلة أن مناظرة التبريز الفرنسيّة أخذت منهجا تدعّم به تاريخ الفلسفة. ذلك هو سبب من أسباب عديدة جعلت الجامعات الفرنسيّة الكبرى ترفض فلسفات فوكو ودريدا وبورديو ودولوز. لا ننسى أنّ ميشال فوكو قد تمّ انتدابه بفرنسا في قسم علم النفس. ولم يتمّ انتدابه كفيلسوف بقسم الفلسفة إلاّ في جامعة تونس ثمّ في جامعة فانسين غير المعترف بشهائدها عصر ذاك ثمّ في معهد فرنسا أي خارج أقسام الفلسفة بالجامعات الرسميّة. كذلك الشأن بالنسبة إلى دريدا الذي حرم من التدريس في الجامعات الرسميّة. هناك أسباب أخرى كالإنغلاق الفكري والأيديولوجي والمواقف الأخلاقية والسياسية وغطرسة اللوبيات والحسد والكره. لذلك في رأيي عندما قام دريدا مع فرنسوا شاتلي وجون بيار فاي وغيرهم بتكوين المعهد العالمي للفلسفة أنقذ الفلسفة الفرنسية من الانقراض وأعطاها بعدها الذي يليق بها.

محمّد عادل مطيمط: كيف تفسّرون أيضا كون ما مثلته فلسفة الاختلاف من انفتاح على الآخر وابتعادا عن نموذج الهيمنة الكلاسيكي والأكاديمي، أصبح اليوم تعلّة في يد أنصار ما يسمّيه أمين معلوف بالهويّات القاتلة؟ أيّ الحلّين أفضل للإنسانية إذن: مواصلة السير في طريق نموذج العقلانية الكلاسيكية بما يكفله من توازن، أم توخّي طريق “نموذج” الاختلاف الذي يسير بنا –في ما وراء الانفتاح والاعتراف بالآخر – إلى تخوم الموت والدّمار في صراع “الهويات القاتلة”؟

فتحي التريكي:ت

 

شخصيّا تفطّنت لهذه المعضلة الشائكة عندما أصدرت كتابي “قراءات في فلسفة التنوّع” أدافع فيه عن التوجّه الإختلافي للتفلسف. إذ بدا لي بعد مناقشات عديدة وحوارات مع الزملاء والمفكّرين أنّه باسم حقّ الاختلاف الثقافي وباسم التنوّع يمكن قبول ما لا يقبل منطقيا وأخلاقيا مثل ختان البنات ورجم النساء وحتى أكل لحوم البشر. كل ذلك يصبح مباحا. ويصبح التمترس بالهويّة القاتلة ممكنا بل حقّا من حقوق ثقافة المجموعة. ما العمل ؟ هل يعني ذلك فشل فلسفة الاختلاف ؟ لا أبدا. فالنقد الموجّه للعقلانيّة الديكارتيّة الذي نجده عند فوكو أو عند ميشال سار لا يعني رفض التنوير ورفض التوجّه العقلي في نمط فكرنا وعملنا. فوكو كتب ودافع عن التنوير. دولوز ودريدا أيضا ولكن من وجهة نظر أخرى. إلا أنّ التيّار الذي خلقته فلسفة الاختلاف أي ما نستطيع تسميتهم بالاختلافيين والنسبيين قد كانوا مغالين في فكرهم حتى أنّهم رفضوا الكونيّة وفيهم من دافع عن كثرة الكونيّة وسمّاها بالكونيّات. وهذا غير معقول لأن كنه الكونيّة يتمثّل في قبول قيما محدّدة من الجميع. فإذا تعددت الكونيّة تبدّدت بطبيعتها إذ تصبح لكلّ ثقافة كونيّتها فتنعزل وتفقد إنسانيتها.

شخصيا وجدت الحلّ في مفهوم استقيته من فلسفة الفارابي وهو مفهوم التعقّليّة الذي يربط العقل بالقيم دون أن يمحو التنوع والاختلاف. المهم أن يتفاعل الجميع من خلال هذه التعقّليّة مع قيم أساسيّة يتقاسمها الجميع بعد الحوار والموافقة. وهذا ما دعاني إلى الاستنجاد بحنّا أرند وبفلسفة العيش المشترك التي أنشأتها بعد الحرب العالميّة الثانية. فطوّرتُ فلسفة العيش المشترك في كنف الكرامة أواخر التسعينات. وهي فلسفة تضمن الحرّيات الفرديّة للإنسان وحقه في الاختلاف والغيرية وتضمن أيضا تعايشا مبنيّا على مبادئ التنوير والعقلانيّة المنفتحة.  بهذه الصفة يمكننا اعتماد الحلّين معا دون أن يكون هناك نشاز. فطريق نموذج العقلانيّة الكلاسيكيّة إذا ما كان منفتحا على الوجدان والقيم يؤدّي من خلال استعمال متوازن إلى الغيريّة والتعايش السليم أي إلى الإعتراف بالاختلاف والحقوق. وكذلك الشأن بالنسبة إلى طريق النموذج الاختلافي فهو يِؤدّي من خلال التفاهم والتحاور إلى حياة معقلنة وغير متهوّرة منفتحة على التشارك وذلك بواسطة استعمال غير إقصائي لعقلانيّة العلاقات البشريّة. فلسفة العيش المشترك هي في مفترق الطريقين أعني عقلانيّة الاختلاف والتنوّع.

محمّد عادل مطيمط: هل توافقوننا الرأي أن دور قسم الفلسفة في اليونسكو يجب أن يكون أكثر خدمة لفلسفة التنوير منه للفلسفة بشكل عام؟ ألم تنتج الفلسفة الحديثة فلسفة معادية للفلسفة، أعني معاداة العقل والكونية؟

فتحي التريكي:ت

طبعا وهو كذلك. ولكن علينا أيضا أن نعترف بتنوّع المقاربات الفلسفيّة في الثقافات العالميّة. فكرة إغريقيّة الفلسفة واحتكارها داخل الثقافة الغربية ومحاولات تأريخها بواسطة تاريخ الغرب الثقافي كلّ ذلك ينمّ عن احتقار للثقافات الأخرى وهي على كلّ حال فكرة استعماريّة مهّد لها هيغل أساسا. علينا الآن إعادة قراءة الفلسفة بمنظور تثاقفي يعطي لكلّ ذي حقّ حقّه ويبرز دور الثقافات المتعدّدة في تركيز المناهج الفكريّة لمقاربة العالم والحياة ماديّا وروحيّا. كذلك لابدّ من التمعّن في فكرة إغريقيّة الفلسفة. نعم ولا يشكّ أحد في دور الفلاسفة الإغريق في تأسيس التفلسف كما نقوم به الآن لذلك يرى الكثير أن بداية الفلسفة تكمن في نسقيّتها الإغريقية. صحيح ولكنّ الأبحاث بيّنت أنّ هناك في ذلك العصر تثاقف متين بين ثقافات الشرق وثقافة الإغريق. وهذا طبيعي لأنّ العالم آنذاك كان ينقسم بين شرق وغرب ولا بين شمال وجنوب وكانت الحدود الثقافية على تخوم البلاد الإغريقيّة والإغريق كان يتبع الشرق ويتعامل معه على كلّ المستويات والغرب آنذاك لا يهتمّ إلا بالحروب. فغربيّة الحضارة الفلسفيّة الإغريقيّة أسطورة استعملها الغرب للاستحواذ على التفلسف. الآن هناك دراسات عديدة في العالم، في آسيا وإفريقيا وفي ألمانيا أيضا تعيد للفلسفة تنوّع مصدرها وأصالتها ومنظمة اليونسكو من خلال كراسي الفلسفة التابعة لها في كلّ أنحاء العالم تعمل على تقصّي الفكر الفلسفي في كلّ الثقافات ويبقى نموذج التنوير حاضرا وفاعلا في أدبيّاتها. وأنا أدعو إلى استقصاء التنوير العقلي في الثقافات المتنوّعة والاعتماد عليها لتقبّل التنوير الفلسفي والعلوم الحديثة والتكنولوجيا المتطوّرة.


محمّد عادل مطيمط: من الفلاسفة والحرب إلى الذاكرة والمصير آخر مؤلفاتكم، ما الذي تغيّر في فلسفة فتحي التريكي؟

فتحي التريكي:ت

هناك لا محالة عدّة تغيّرات وتحوّلات وتدقيقات وتصحيحات ومنعرجات في نمط تفكيري ولكن هناك أيضا خطّ ناعم يشدّ تقريبا كلّ مؤلفاتي يمكن تلخيصه في تصوّر “الفلسفة الشريدة” وأعني المقاربة الفلسفيّة التي لا تحصر نفسها داخل الأنساق والنظريات والموضوعات والمناهج المعهودة كما لا تخضع إلى تاريخها لتنهش جثّتها مع أنّها تحترم تقنيات الفلسفة المعهودة وتعتمد غاياتها في التوضيح تفسيرا وتأويلا وفي النقد تقييما وتحديدا وفي التشخيص استقصاء وعلاجا وفي التنظير وصلا وتأسيسا. فمنذ كتابة أطروحتي في المرحلة الثالثة تحت عنوان “مفهوم الحرب في الفكر السياسي الحديث” التي اتّخذت عنوانا آخر اقترحه عليّ فرنسوا شاتلاي “الفلاسفة والحرب” عندما تمّ طبعها، إلى كتابي الأخير “الذّاكرة والمصير” وأنا أحاول الدفاع عن تفتّح الفلسفة على كلّ المواضيع التي تهمّ الإنسان في فكره وخياله وإبداعاته وممارساته وفي حياته اليومية. هذا الخط الناعم لا ينفي وجود تغيّرات محدّدة في نمط مقارباتي لهذه المواضيع. فقد اصطبغت أعمالي الأولى بصبغة ماركسيّة وكنت أبحث عن نقطة ضوء في النسق الماركسي للدفاع عن فلسفة التنوّع وكان ذلك واضحا في كتابي “قراءات في فلسفة التنوّع”. واعتمدت أيضا على مستتبعات فلسفة الاختلاف ومقاربات الفينومينولوجيا وشخصيا لا أرى تناقضات جوهريّة بين هذه المقاربات. ولكنّ التحوّل الهام يتمثّل في تجنّب الاختلافيّة المتطرّفة و”النسبانيّة” المتهوّرة التي أحدثتها فلسفة الاختلاف والعودة إلى نظريّة كونيّة الفكر والقيم عن طريق مفهوم التعقّليّة وفلسفة العيش المشترك وقيمة الكرامة ولكنّها كونيّة من نوع جديد هي كونيّة الاقتسام تعتمد التثاقف والتآنس وترفض هيمنة ثقافة معيّنة على الثقافات الأخرى مهما كانت أهمّيتها. أنا أعتبر نفسي اختلافي المنهج وكوني المقصد.

محمد عادل مطيمط: بم تفسرون كون جمهور المهتمين بالفلسفة في العالم العربي يجهل الكثير عن إنسانوية النهضة الأوروبية وعن التحولات العلمية الكلاسيكية التي أعادت تشكيل العقل الغربي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولكنه كثير الاهتمام بفلسفات معاداة العقل المعاصرة؟ ألا ترون أن إغراق الحقل الفلسفي العربي المعاصر بمسائل الهايدغارية والفنمنولوجيا والمنعرج اللغوي وخطاب التفكيك قد أفضى إلى كارثة، هي كارثة اغتيال العقل وهو في المهد؟ أي فلسفة تنصح بها مدارسنا وجامعاتنا أستاذ فتحي التريكي؟

فتحي التريكي:ت

في واقع الأمر بقيت الفلسفة غريبة في العالم العربي الإسلامي. فالمتصفح في معطيات المعقولية العربية كما تتوظف اليوم في المجالات الحياتية العامة يلاحظ من أول وهلة شرخا عميقا يسكنها. فمن ناحية تتقبل هذه المعقولية استهلاكا كل ما يرد عليها من تكنولوجيات متطوّرة ولكنها من ناجية أخرى كثيرا ما ترفض كل ما يجعل هذه التكنولوجيات ممكنة إبداعا وترسيخا في المجتمعات العربية ونعني بذلك مظاهر الحداثة ومستتبعاتها. وقد يزداد هذا الشرخ عمقا عندما نعرف أنّ مرجعية هذه المعقولية تبقى في مجملها حبيسة الفكر الماضوي بينما تحاول في نفس الوقت استيعاب نتائج العلوم والتكنولوجيا فتكون بذلك مستهلكة غير مبدعة في هذا الشأن. هذه المعقولية مازالت سجينة التجميع والتفتيش والتأريخ والنقل والتنقيل والشرح والتفسير كما بيّن ذلك الدكتور شاكر النابلسي. لم تصل بعد إلى طور التأليف والابتكار والإبداع والإنتاج الحقيقي للأفكار والمفاهيم والتصورات. فقد بقيت معقوليتنا للأسف نقلية في الأساس إذ لم تستطع إلى يومنا هذا أن تقفز قفزة نوعية نحو مرحلة النقد العلمي والجذري الحقيقي لأنّ هذه العقلية مازالت ترزح تحت وطأة المحرّمات والممنوعات والمحجّرات بأنواعها المختلفة دينا وسياسة واجتماعا وثقافة. زد على ذلك أن التصور الإسلامي للفلسفة كان منذ البداية قائما على الممارسة الدينية والاجتماعية والسياسية من جهة وعلى المشاكل التي تثيرها الديانة الإسلامية عموما من جهة أخرى. وبتعبير أخر،فان ضروب الممارسة الفلسفية عندنا وتطورها مرتبطان ارتباطا أحيانا وثيقا بالواقع الروحي والديني. هكذا بقي العقل عندنا حبيس التصوّر الديني للحياة. فعندما اكتشف العرب تطوّرات العلوم الناتج عن تطوّر العقل في أوربا كانت هناك محاولات جادّة لترسيخ العقل في مجتمعاتنا في عصر النهضة. ليس ثمّة شكّ أنّ الإشكاليّة التي شدّت اهتمام المثقف العربي منذ عصور النهضة إلى يومنا هذا تتمثل في تأصيل الكيان وتحديثه. أرى أنّها جدلية صعبة لا محالة ولكنها تأخذ أبعادا مختلفة تأثر أحيانا في تطوير نمط الحياة. فالكيان يبقى عند الكثير من هؤلاء المثقفين أصيلا والانفتاح يعني تجديده. و تكون الأصالة تارة دينية وتارة أخرى أدبية وإبداعية وقد تكون أيضا علمية. فبالنسبة إلى شبلي الشميـّل مثلا  الذي كان بحق رائد الفكر العلمي العربي الحديث يكمن كياننا في العلم عموما والعلوم الطبيعية خصوصا تلك التي ساهمت الحضارة العربية الإسلامية في صنعتها وطورتها. أما الفكر الأدبي والفلسفي والفقهي فقد تطور هو أيضا. كذلك الشأن بالنسبة إلى علي عبد الرازق الذي يرى أن تأصيل الكيان وتحديثه يكمن قبل كل شيء في تجديد الفكر الديني بينما طه حسين يحدده في تجديد الفكر الأدبي. وقد لعبت فكرة “الأصالة والتفتح” دورها في تأصيل الكيان بتونس عند بعض المفكرين والسياسيين أمثال محمود المسعدي ومحمد مزالي ومحجوب بن ميلاد وغيرهم.


هكذا عندما تعرّف العرب على النهضة الأوروبية وعلى التحولات العلمية الكلاسيكية وبدأت حركة التجديد كان التفاعل الأوّل هو الدفاع عن التراث وتأصيل الكيان. وعندما قامت في الغرب حركة فلسفيّة لنقد العقل الأدواتي انتهز الفرصة الرجعيّون والتراثيون لمهاجمة العقل الغربي كله تكوينا وعملا بل نجد فلاسفة أصحاب مشاريع تقدّميّة يسقطون في الفخّ ويدافعون عن “عقل عربي”. فهل يمكننا تقسيم العقل جغرافيا وسياسيا ؟ أليس كنه العقل أن يكون كونيّا وإنسانيا؟ وعندما نقول بعقل عربي فمعنى ذلك أننا نستبعد العقل الذي ترعرع في العلوم والتنوير ونفضّل التأصيل على التحرير. ففلسفة العقل العربي التي وجدت شهرة واسعة عند الشباب العربي هي في واقع الأمر دغدغة الوجدان ومعاداة العقل في كنهه واستعماله. لقد دافعت في كتابي “تحريرًا  لكيان” عن وجوب إنهاء عمليّة التأصيل والشروع في تحريرنا من شوائب الماضي وسجن التراث وذلك بالعقل العلمي التنويري الذي يجب أن يتجذّر في حياتنا اليوميّة.

فليس العيب في الفلسفات التي تحلّ في ربوع جامعاتنا سواء كانت ماركسية أونيتشويّة أو هايدغيرية أوغير ذلك. العيب في نمط استعمالها. فهي كثيرا ما تكون حبيسة الجامعات والأكاديميّات وتأثيرها في المجال الثقافي ضعيف وغير مجدي ثمّ أنّها إذا خرجت إلى الفضاء العمومي فكثيرا ما تلبس ثوب الإيديولوجيا والسياسة فتفقد بذلك حقيقتها. شيئان لا بد منهما في هذا الشأن : التنوّع الفلسفي والخروج إلى الساحات العموميّة بلباس الفلسفة نفسها. فالفينمنولوجيا والمنعرج اللغوي وخطاب التفكيك بجانب طروحات فلسفية أخرى لا تؤدي إلى كارثة ولكنّ عمليات تأحيدها هي التي تِؤدي إلى الكلّيانيّة الفكريّة. فالفلسفة التي ترى نفسها هي الوحيدة الممكنة وتقصي إمكانيّة التفكير بطريقة مغايرة غير جديرة بالاحترام. ذلك لا ينفي عمليّة النقد والتفكيك ولا ينفي التناظر والتحاور ولكنّ ذلك لا يكون إلا حسب قاعدة التضايف والتواجد. فنصيحتي هي الابتعاد عن توحيد الفلسفة في نمط محدّد أي أن نسمح للمناهج الفلسفيّة بالتواجد والتحاور والنقد والتضايف. ذلك ما سيساعد على تقوية ملكة التفكير واستعمال العقل والتنوير استعمالا غير دغمائي بل منفتحا ونافعا لمجتمعاتنا.

محمد عادل مطيمط: لم يكن ممكنا للإنسانوية ثم للحداثة في الغرب أن تنتصرا وأن تفرزا حراكا فلسفيا حقيقيا إلا بفضل بروز قوة اجتماعية تاريخية كانت ولازالت بحاجة إلى ذلك الانتصار. ألا ترون أن واقع البؤس الفلسفي الذي يعاني منه العالم العربي ناتج عن عدم وجود قوة اجتماعية حاملة للمشروع؟ هل الحاجة إلى الفلسفة هي فقط حاجة نخب منعزلة عن واقع اجتماعي تهيمن عليه آليات اجتماعية رجعية مضادة لكلّ إنسانوية ولكل تحديث؟ ألا ترون المجتمعات العربية بحاجة أولا إلى حركة إنسانوية تقلب بنية الثقافة بشكل عميق حتى تصبح الحركة الفلسفية ممكنة؟

فتحي التريكي:ت

لا أوافق كثيرا على فكرة القوّة الاجتماعيّة الوحيدة الحاملة لمشروع العقل التنويري والتحديثي. هناك زمنيّة تاريخيّة تطوّريّة تفرز دائما وأبدا قوى ارتكاسيّة وقوى تقدّميّة. كنت  ومازلت أؤكّد أن الحداثة مصيرنا، وأن علينا فتح كياننا على تاريخيتنا لا من حيث إنها تربط حاضرنا بجذورها وبالحضارات التي تعاقبت علينا فقط بل وأيضا من حيث إنها انفتاح على الإقبال والمصير، لهذا فنحن لم نعد بحاجة إلى تأصيل كياننا بقدر ما نحن بحاجة إلى فتحه على الحداثة وعلى مسارها في تمظهرات الفكر العالمي. يعني ذاك أن نخرج من الارتكاس ومن الوقوف على الأطلال ومن البكاء على الماضي وأن نعلن بصوت صارخ عن “القبول الأعلى للحياة” بتعبير نيتشه، وعن تجاوز معاناتنا وذلك بالوعي الكامل باختلافنا عن ماضينا، ولا مناص لنا من حياة اللحظة الحاضرة في الهنا والآن والتي تتحدّد-سواء أحببنا ذلك أم كرهناه- باصطدام الماضي بالمستقبل، ففي هدا الاصطدام يتجسد اختلافنا، وربما يكون ذلك في العودة الأبدية للذات، لكن هذه العودة ليست هي ذاتها في كل مرة. ففي كل عودة يأتي شيء يختلف عمّا سبق، بحيث يكون قفل الحلقة في الاختلاف لا في الهوية وفي الاصطدام لا في التماهي وفي الصراع لا في الاستسلام. صدمة الماضي بالمستقبل ستجعل منا أمة تعيش حاضرها وتساهم فيه وتبدع. وبذلك يكون الإنسان داخل كيانها مشروعاّ، بل سيكون إنجازاّ داخلياّ لإرادة القوة وللنضال من أجل الحياة. لذلك أعتقد أنّ القوى الاجتماعيّة تتموضع كلّها داخل هذه الزّمنيّة التاريخيّة بعضها يجد ضالته في الإرتكاس وبعضها الآخر في التقدّم ومهمّة الفلسفة تلك التي لا تسجن نفسها في تاريخها أو في مدارسها وأكاديميّاتها هي النضال اليومي لتقوية الاتجاه التقدّمي. الإشكال هو أنّ هذه القوى التقدّميّة متنوّعة ومختلفة. ففي الغرب مثلا أخذت اتجاها ليبيراليا فغيّرت منهج تفكيرها الفلسفي وفكرة راولس مثلا في أننا نستطيع تحديد العدالة في اللامساواة الاجتماعيّة تخدم مصالح الليبيراليّة التي تعتمد اللامساواة وتبرّر الاستغلال.

في الظروف الحالية نحن في المجتمعات العربية بحاجة ملحّة لفلسفات تنويريّة تعتمد الإنسانويّة والكونيّة كما تعتمد النقد والتوضيح بواسطة العقل والمنطق بعيدا عن الوجدانيّة الهدّامة. يجب أن يتجذّر ذلك في النخبة الثقافيّة العربيّة التي مازالت تحت وطأة التحريم والمنع كما يجب أن تصل إلى عموم الشعب لتفتح النقاش حول قضاياه الكبرى. ونحن في تونس أحدثنا معيّة ثلّة من الزملاء معهدا “شعبيّا” للفلسفة خارج الأكاديميّات وهو يعمل بصعوبة لا محالة جرّاء البيرقراطيّة والخوف من الفلسفة ولكنّه سيؤدي عمله وسينجح بعزيمتنا ونضالنا لأنه آن الأوان لتحرير كياننا وتحديثه على قاعدة الفكر التنويري.

محمد عادل مطيمط: هل توافقون الظن السائد أن الاسلاميين الذين هيمنوا مؤخرا على المشهد السياسي في كثير من أمصار العالم العربي، يدافعون عن هويّة ما؟ ما علاقة جماعة عالمية، تتحرك فوق التاريخ والثقافات، بالهوية؟ ألا يمكننا اعتبار هيمنة الإسلام السياسي ضربا من “الإبادة الثقافيّة”؟

فتحي التريكي:ت

كتبت الكثير عن إشكاليّة الهويّة ولاحظت أنّ همّ الشباب العربي هو التأكيد على هويّته التي يعتقد أنّها راسخة ثابتة لا تتغيّر تكوّنت نهائيّا عندما جاء الإسلام وغيّر المشهد العربي في الجزيرة العربيّة. وقد استغلّ الإسلام السياسي هذه الاعتقادات ليمرّر مشروعه ألإقصائي. وعلى الفلاسفة في رأيي أن لا يقفوا على عتبة هذه الملاحظة ليردّدوا أنّ الهويّة قاتلة. عليهم الإجابة عن هذه التّساؤلات والإشكاليّات المختلفة، وإعادة تعريف مصطلح الهويّة في علاقته بالغيريّة. نعم علينا رصد انتماءات هويتنا التّعددية والاختلافيّة. ذلك لا يمنع الفرد من إثبات انتسابه الواقعي والرّمزي إلى مجموعة قيم معيّنة وإلى وحدة ترابيّة محددة وإلى ماض واضح المعالم هو في الحقيقة تاريخ قومي وإطار اجتماعي وثقافي وسياسي. فالإسلام عرف أثناء فتوحاته الأولى كيف يعيد تنظيم الجماعة الإسلاميّة بفسح المجال لاستمرار ما هو جوهري في عمقه الثّقافي، ولم يمحُ آثار الثّقافات الأخرى وأنماط حياتها. أمّا الإسلام السياسي الآن فقد أنهى هذه الممارسة الإسلاميّة الأولى ليحوّلها إلى ممارسة سياسيّة بحتة فأصبحت الهويّة عندهم كما هي عند السياسيين نوعا من الخليط يسمح لهم بتفادي إشكاليّات لا يملكون مفتاحها، كما تسمح لإيديولوجيتهم  باختزال الواقع المتشعّب في أحداث منسّقة ومنظّمة، والتّصرّف في رهانات السّلطة بفعاليّة.

في تونس بعد الثورة وعند وصول الإسلاميين إلى السلطة أصبحنا نعيش صراع المرجعيات بعدما عشنا قبل ذلك تناغما بينها بفضل علماء الإصلاح الذين حاولوا منذ أواسط القرن التاسع عشر إعطاء تونس مرجعيات عديدة ترتكز عليها بتناغم لبناء دولة عصرية حديثة. وفي الواقع يقوم هذا التناغم بين المرجعيات نظريا على توازن خلاق بين المنطق الديني والمنطق العلمي. فليس ثمّة حرج فى الجمع بين البيان الدينى للمعنى وبين التركيب المنطقى والبرهانى مع فصل المقالين. ويكون فصل المقال أساسيا فى منهجية تناغم المرجعيات، وقد حاول علماء جامعة الزيتونة عصرذاك ومعهم علماء مدرسة الصادقية اعتماد فصل المقال والتمييز كما يقول الفارابى بين جملة الأقوال والممارسات حتى تصبح لكل قول مكانته الخاصة الدقيقة من ناحية، ومن ناحية أخرى ليعمل المفكّر والعالم بكل ما أوتى من علم وفكر وذكاء على ألا تختلط السبل وألا نُعيد للحضارة العربية والإسلامية ما سيجعلها تعود إلى السبات والسكون والاندثار.

كذلك ظهر تناغم المرجعيات على مستوى التعامل مع التاريخ في حركية بناء الدولة العصرية بعد الاستقلال عندما استلهم النظام البورقيبي آنذاك قوانينه وممارساته من قراءات متجددة للدين الإسلامي لا محالة ولكن وأيضا من تاريخ تونس المتنوع ومن الحضارات الكثيرة التي شاهدتها في ماضيها لتتكون فكرة “القومية التونسية” والتي تريد أن تكون تركيبا متوازنا لجميع تلك الحضارات دون المساس بالهوية العربية الإسلامية. ولعل المهمة الصعبة كانت ومازالت تكمن في صياغة فكرة الوطن وإعادة صياغتها على ضوء مستجدات الحاضر. مع هيمنة الإسلام السياسي تناغم المرجعيات المؤسسة للهويّة التونسيّة أصبحت في خطر بل هناك محاولة “للإبادة الثقافيّة”” وحصار الشعب التونسي بإيديولوجية عنيفة وإقصائية ورهيبة قد استعملها التنظيم الإسلام السياسي  في مصر وليبيا ويحاول استعمالها على مستوى العالم الإسلامي كلّه. والنتيجة كثيرا ما تكون كارثية. إنهيار للشخصيّة وانهيار للشعب وانهيار للوطن وهي مفاهيم لا يعترف بها الإسلام السياسي.

محمد عادل مطيمط: أستاذ فتحي التريكي، كيف تتصورون مستقبل الحوار الثقافي الفرنسي العربي؟

فتحي التريكي:ت

كانت ومازالت العلاقة بين فرنسا والعالم العربي منذ القرن التاسع عشر على المستوى الثقافي مبنيّة على إيديولوجيّة المثاققة التي تعني أساسا تثقيف العالم العربي بواسطة ما أفرزته الثقافة الفرنسيّة والغربيّة. بينما في رأيي على هذه العلاقات الآن أن تكون متبادلة مبنيّة على التثاقف والثثاقف هو الفلسفة التي تمكّن، في نفس الوقت، من احترام الاختلافات البنيوية للثقافات، ومن إقرار أهميتها المتساوية مع الثقافات الأخرى من حيث قيمها الداخلية، ومن اعتبار أية ثقافة كما لو أنها مالكة لبعد كوني، ذلك البعد الذي يجعلها أيضا خيرا مشتركا في متناول الإنسانية برمتها. هذا باختصار تصوّري لمبدأ الحوار الثقافي الفرنسي العربي.

.محمدعادل مطيمط: شكرا جزيلا أستاذ فتحي التريكي