Arwiqa Portiques – أروقة

نقــــــــــــــــــــد فلســـــــــــــــفة الــــــــــــمــــــركز عنــــــد دولـــــــــــــــــــوز و دريــــــــــــدا وفوكـــــــــــــــــــو

Critique de la philosophie centriste chez trois philosophes français contemporains : Deleuze, Derrida et Foucault

فتحي التريكي

أستاذ كرسي اليونسكو للفلسفة في العالم العربي

        كنا قد بينا في أبحاثنا السابقة[1] أن التفكير الفلسفي عامة سيتأقلم حتما مع تمظهرات العلوم وتطورها وتعدّد التـّعابير البشرية واختلافها. وقد كنّـا نعني بذلك أن هدف الفكر الفلسفي سيتعيّن في عملية تشخيص الواقع المعيش ومعالجته وبيان خصائصه ومميّـزاته وذلك « لتحسين ذلك الجزء من العالم الذي مازال قابلا للتغيير » حسب تعبير نيتشه.

سنحاول هنا أن نحدّد من خلال تلك المعطيات مجال الفلسفة في ممارساتها المختلفة، في عصر هيمنت عليه تمظهرات العنف بأشكاله المتعددة التي أفرزت شيئا فشيئا غلبة قانون الغاب.

عندما حلّل الفيلسوف الألماني هسّرل  في أوائل القرن الماضي أزمة الوجود الأوربي [2] خرج بالنتيجة القائلة بوجود مخرجين من هذه الأزمة: « فإما انحطاط أوربا التي ستصبح غريبة عن توجه الحياة العقلي فيها  » ويعني بذلك انحدارها في سياسة الكراهية للغير على المستوي الرّوحي وفي الممارسات الهمجية العنيفة. « وإمّا نهضة أوربا من خلال الرّوح الفلسفية نتيجة نضال العقل البطولي الذي سيتجاور نهائيا ­­­تلك الحيوانية ». كل ذلك يعني أنّه لا بد من مقاومة علاقات الغلبة والغطرسة والقوة الغاشمة التي تصبغ حياة الإنسان الحيوانية الطبيعية والتي نجدها حاضرة وفعالة في فترات سياسية معيّـنة. وتكون هذه المقاومة ضد الهمجية والبربرية حسب هسّرل بغرس روح الفلسفة في المجتمعات المتحضرة التي تريد بلوغ مرحلة الكونية إذ ليس ثمة مجال للشك في ضرورة التفكير الفلسفي الخاص بأمة أرادت أن تطوّر نمط حياتها نحو مزيد من الإنسانية والتعامل الحضاري مع الآخر. فقد ربط هسّرل « الهمجية » والحقد والكراهية بغياب الفكر الفسلفي المبني على العلوم والمعرفة والعقل. فالانحدار نحو العنف ونحو التعامل العاطفي الطبيعي والحيواني مع الآخر بفعل الغطرسة والقوة أو التزمّت والتعصّب لهوية معينة، أو لاعتقاد معين أو لقناعة سياسية واجتماعية محددة هو نتيجة حتمية لأزمة العلم والمعرفة عندما يصبح العقل آلة وتقنية نستعمله لحاجيات حياتية ضيقة أو عندما يغيب العقل تماما في معاملاتنا وتشكل حياتنا الفكرية والمادّية.

  1. « دلوز »  وفلسفة الاختلاف  

يمكن اعتبار الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز من أهم الفلاسفة الذين انتبهوا إلى هذا المجال الفلسفي الجديد بحيث قد قام بالتفكير فلسفيا في الحركة التغيّـرية الهائلة التي قد هدّم معالم المركز والفيلسوف بالنسبة إليه هو الذي يفجر بفكره الإبداع الحركي المتواصل.

فنحن نعرف أن فلسفته قد قامت على مفهوم الاختلاف الذي قد حلّل أركانه ومستتبعاته في كتابين صدرا في الستّينات وهما: الاختلاف والمعاودة [3] ومن منطق المعنى [4] وحاول تطبيقه في كتب متعددة داخل تعبيرات ومناطق فكرية متنوعة كالرسم والآداب والشعر والفلسفة والسينما والسياسة والأخلاق والتاريخ وغيرها. فجاءت فلسفته حاملة لنهج جديد يجعل من الفكر حركية متواصلة خاصة بالاختلاف، فتخرج بذلك عن طابع الفلسفة الرسمية الثبوتي ، أي تلك التي تدرس في الجامعات والمدارس والتي تقوم دائما حول مركز مضبوط ومعين. ففلسفته رحيلة وشريدة لا تعترف بموطن خاص ولا بمقر محدد، فيها تتحرر الأفكار والخيالات الهائمة والرغبات والإبداعات وتتفجر التعابير الإنسانية المختلفة والتجارب الجمالية والممارسات الخطابية.

عندما نقول فلسفة شريدة  فإننا نؤكد ضياع مركزية الذات مثلا، تلك التي قد جعلت منها الفلسفة الكلاسيكية محور الوجود والفكر. ف »دلوز » لا يعتبرها مصدر الأفكار والقرارات والأعمال بل يرى أنها تدخل ضمن تعددية التمظهر لا تكون وحدتها إلا في صيرورتها من حيث هي ذات في ذات الإقبال المتصلة بالممارسات.

فقد قام « دلوز » اعتمادا على فلسفة نيتشه بتطوير فلسفة الصيرورة في بعدها الجمالي حيث أعطى للإبداع حركية متواصلة، وفي بعدها الأخلاقي حيث أعطى للقيم بعدا تحوليا غير سكوني، وفي بعدها السيكولوجي حيث أعطى للرغبةDésir  قدرة للعطاء والإنتاج بعدما كانت تعتبر نتيجة نقص وحرمانPrivation . فالصيرورة مفهوم محوري في فلسفة « دلوز ». والفلسفة هي صيرورة مفهومية متواصلة، والفن أيضا هو صيرورة الإحساس ولذلك سيكون الفكر بصفة عامة محاولة للتموضع في حقل السيلان واندفاق المعاني وتركيباتها المعددة وتوزيعاتها ورابطاتها المتكاثرة.

فالصيرورة تعبير واقعي يقوم بواسطته « دلوز » بإقحام « الحياة » في الفلسفة والفن، بقواها الشديدة وبحركيتها المتواصلة. فقد حرّر الفكر من التمركز العضوي وأصبح يعمل من خلال محاور واتجاهات وحركات وتغيير الأمكنة والهجر والانتقال باستقلال كامل عن هيمنة فكرة التمركز.

هكذا تكون الصيرورة هي تعبير الفلسفة الشريدة الأمثل تلك التي لا تتحمّل أية كلّيانية ممكنة، بل يرى فيها « دلوز » تجاوزا لما يسمّيه على منوال « هسّرل » « بمرض التعالي الأوربي »[5] نحو حركية متواصلة للمعنى ومفتوحة على الهوامش وثائرة على المركز.

  • درّيدا وتقويض المركزية

على أننا قد نجد أيضا هذا التقويض الفكري لمركزية المعنى في فلسفة « جاك درّيدا » التفكيكية التي تهتم لا محالة بالبحث عن المعني ولكن ذلك يكون خارج مركزية العقل الصارم في الصبغة التي أصبح عليها ضمن معطيات ما بعد الحداثة.

لقد أكد « جاك دريدا » مرات عديدة أن فلسفته هي في ذاتها محاولة لفهم العقلانية الجديدة التي أنتجتها علوم العصر وطوّرتها فلسفات القرن العشرين تلك الفلسفات المتأثرة شديدة التأثر بالهيجيلية وبالمادية الماركسية وبالفلسفة النتشوية وبفلسفة اللاوعي الفرويدية بحيث سيلعب هنا « دريدا » دور المفكر الذي يبحث بوسائل فلسفية جديدة عن المعني اللامركزي فيسير بذلك في نفس الطريق الذي سار فيه فلاسفة القرن العشرين مثل « هيدغير »و »مرلوبنتي »-و »غاستون باشلار »و »ميشال فوكو » وغيرهم.

إن انتماءاتنا الثقافية والفلسفية والعقدية تكون دائما وأبدا حيوية في نمط تفكيرنا وأبحاثنا وإبداعاتنا. فلا غرابة إذن أن يؤثر وضع دريدا البيئي وتكوينه وانتمائه المزدوج إلى الحضارتين الغربية والشرقية في نمط تفكيره الفلسفي.

ومفهوم التفكيك قد نجد له ما يشبهه في أفكار عديدة وفي أديان عديدة تنتمي إلى الحضارتين. إلا أننا إذا أردنا أن نجد له جذرا صلبا فعلينا بالعودة إلى النقدية النتشوية وإلى جنيولوجيا الأعماق في فلسفة اللاوعي الفرويدية وإلى الفلسفة الماركسية الأولى والمتّسمة بالتقويضية.

والملاحظ هنا أن فكرة ما بعد الحداثة أنتجتها معطيات الحضارة الغربية المتطورة على الصعيد التكنولوجي والاقتصادي من ناحية وأثبتتها فلسفات النقد ( ماركس، نيتشه، وفرويد) على الصعيد الفكري العام من ناحية أخري.

وليس ثمة من شك أن جاك دريدا قد وضع موضع النقد فكرة الحقيقة المطلقة والمنتزعة وحاول تحرير المعنى مثله مثل فلاسفة ما بعد الحداثة ونخص بالذكر منهم فيلسوف الأركيولوجية ميشال فوكو و فيلسوف ما بعد الحداثة جان فرنسوا ليوتارد و فيلسوف الإختلاف جيل دولوز الذي قد حللنا بعض جوانب فلسفته.

لقد أكدنا في الفصل السابق على التوجه الجديد للفلسفة التي في كنهها ومسارها لا تكون مجدية إلا إذا فتحت آفاق الفكر نحو النقد الجذري وتجاوزت حدود الظنون والأفكار السائدة. فبدون حركية النقد والتقويض والتشهير والتهديم لا يمكن للفلسفة أن تكون فعالة ومبدعة.

فمهمة القول والكتابة تتمثل عند جاك دريدا في إظهار ما غاب عن الأنظار وعن المفكر فيه وفي أن نفكر في الآخر من حيث هو آخر وفي الحدود المتوازية بين الأشياء. فالتفكير عنده هو أيضا تفكير الاختلاف والغيرية مثله مثل « جيل دولوز » سابق الذكر بما أنه يضعنا أمام كثرة المعاني وتشعب الآثار. تكمن القضية هنا في أن الهوية المبدئية أو ما يسميه الفارابي ْالهوهوْ لا يمكن أن تخلق تفكيرا متجددا طريفا لأنها ستكون معاودة مملة لما كان ولما كنا نفكر فيه، بينما سيكون الاختلاف مفجّرا للممكن وسيطرح أمامنا إشكاليات مقلقة تحرّك فينا حب المعرفة والإطلاع والتحقيق والبحث.

وعندما دافعت في كل مؤلفاتي عن فلسفة التنوع فقد كان همي أن لا نحبس ذهننا في السائد والمعاودة والهوهو وأن نفجر قابلية عقلنا لممارسة الاختلاف والنقد حتى نعالج قضايانا بفكر متحرر ومتنوّر ولا ننقاد إلى الأمر المقضي من خلال معاودة الأطروحات الماضية بدون خلق وإبداع.

لقد زعزعت فكرة الاختلاف والغيرية أركان المعقولية الغربية التي تناولتها بالبحث في أعمالي السابقة. لأن المعقولية الغربية قد حددت المعني في التعالي وجعلت من التعالي حركة مشدودة نحو إقرار الوحدة النهائية الخالدة التي قد تسكن الحقيقة الثابتة المطلقة التي عليها قد قامت هذه المعقولية وبنت تمظهراتها المختلفة.

فقد بين مثلا الفيلسوف الألماني « يورغن هبرماس » أن بناء هذه الوحدة المتعالية ضروري لإعادة صياغة مركزية فكرة الغرب ويعني بذلك هيمنة الغرب على بقية الحضارات باعتبار أن الغرب بالنسبة إليه هو الضامن المطلق للكونية. أما إذا تعددت المعاني وانفتحت على الثقافات المختلفة فإن فكرة الغرب ستضمحل شيئا فشيئا وبالتالي سيفقد الغرب سيادته وهيمنته.

هكذا يمكننا القول إن الوجهة الإيجابية الثورية للفلسفة التفكيكية لجاك دريدا تكمن في أنها تعطي للغيرية أرضية صلبة لتتدخل في إعادة صياغة كونية جديدة للإنسانية لا تقوم على هيمنة الغرب، بل على مفهوم الضيافة [6] وقواعدها التي ستعطي إلى العلاقة التي تربطني بالآخر صبغة تسالميه منفتحة يتم فيها احترام متبادل للهويات وللمعتقدات وللمآرب والطموحات.

وما يهمّنا هنا هو أن التفكيكية قد ساهمت أيّما إسهام في تفتيت فكرة المركز من خلال تقويض إطلاقية الحقيقة ومن خلال إقرار ضرورة التعدد والاختلاف والانفتاح على الغير حسب قاعدة الضيافة.

  • فوكو وفلسفة الهامش :

كذلك الشأن بالنسبة إلى « ميشال فوكو » الذي أعطى قيمة أكبر للهامشي وفضح آليات التمركز المبنية على العنف الجسدي والمعنوي.

لقد بينا أعلاه كيف أن الفلسفة الحالية تتسم بنقدها اللاذع لكل تمركز ولكل محاولة لبناء مرجعية موحدة وممركزة للفلسفة، كما تتسم برفضها القاطع لأيديولوجيا الثنائيات التركيبية التي تحبس الفكر داخلها وتضيق عليه الخناق. لذلك لا بد لها أن تعيد الاعتبار إلى الهامش من حيث هو الذي يستطيع التقليل من وهم أهمية المركز. ولعلنا نستطيع بحق أن ننعت فلسفة ما بعد الحداثة بفلسفة الهامش.

والسؤال المطروح في هذا المستوى من البحث يتمثل في أن غياب المركز الذي يؤدي حتما إلى غياب المرجع قد يضفي نوعا من العدمية على نمط الحياة ونوعا من الرّيبية على منهجية التفكير.

لا يخصّ الأمر هنا ضرورة أخلاقيات التعامل. وفلسفة « ميشال فوكو » الأخيرة قد أكدت على ذلك بوضوح شديد. ولكن ما هو مرفوض عند فلاسفة ما بعد الحداثة هو أن تتحول الأخلاقية إلى نسق واحد محدّد لكل أعمالنا وتفكيرنا بحيث نعود من حيث لا نشعر إلى ميتافيزيقيّة المركز والمطلق. وفي حقيقة الأمر ليس هناك عند « ميشال فوكو » إلغاء للعقل كما يدعي البعض وليس هناك لجوء لما هو غير معقول ولا للجنون ولا لسيادة الغرائز والعواطف. وليس هناك تهديم للنظام والتنظيم، بل هناك تشهير بالهيمنة المطلقة التي حاول بواسطتها منظرو الفلسفة اليومية كما يحلو ل »ميشال فوكو » أن يعبر بها أن يؤقلموا العقل مع مطامحهم ومصالحهم حتى يتسنى لهم – وهم ضعفاء حسب نيتشه – بأكاذيبهم الملفقة أن يهيمنوا على العالم بواسطة زعمهم للوحدة الصماء للإنسانية.

هكذا يجب إعادة صياغة مفهوم الإنسان وإنتاج فكرة أخرى مغايرة عنه فهو يحيى ويعيش حضارته وثقافته بكل جوارحه ورغباته ووجدانه وعواطفه وعقله وجسده ولكن بدون أن يجعل المعرفة هي التي تتحكم في هذه التمظهرات لحياته.

ولعلّ ميشال فوكو عندما نقد النظام وفكك تمفصلات السلطة حاول أن يعود إلى مسألة الذات بالبحث فيضعها تحت المجهر ليتحقق من خلفياتها ونمط تكونها ونمط توظيفها في الفكر الفلسفي المعاصر. ففوكو يعتبر أن عمله البحثي لا يمكن حصره في تحليل الظاهرات السلطوية وإرساء قواعد لها. فالمهم بالنسبة إليه هو دراسة أنماط التذويت [7]

Modes de subjectivations

للكائن البشري في الثقافة الغربية من خلال تحول الفرد إلى شخص له حقوقه في مجتمع معين على مستويات ثلاثة:

  1. فقد حاول « ميشال فوكو » – في القسم الأول من أعماله العلمية – من خلال دراسة تمظهرات التاريخ الطبيعي والتاريخ البشري ( علم الأحياء ) تحليل مختلف  » طرق البحث التي تسعى إلى بلوغ المركز – مركز العلم – في توضيح الذات المتكلمة ( في فقه اللغة واللسانيات مثلا داخل كتابه الكلمات والأشياء وفي توضيح الذات المنتجة ( في الاقتصاد ).
  2. كذلك قام ميشال فوكو- في القسم الثاني من أعماله – بدراسة توضيع الذات في الممارسات الاستبعادية المميزة بين الذوات. فالذات مقسمة داخل ذاتها وفي المجتمع حيث أن الحداثة قد قامت على إحداث شروخ عميقة بين السوي واللاسوي بين المجنون والإنسان العاقل، بين المريض والمعافى، بين المجرم والمواطن النزيه.
  3. وقد حاول فوكو في المرحلة الثالثة والأخيرة من حياته أن يدرس تموضع الذات في الجنسانية داخل الحضارة الغربية بحيث أنه سيكتشف المرء داخله ذاتا للجنسانية إن صح التعبير. وقد اقترح قيام أخلاقيا ت جديدة تقوم على الإنهمام بالذات والانفتاح على الآخر في الآن نفسه.

فيمكن القول إذن أن فلسفة  ميشال فوكو هي قبل كل شيء فلسفة الذات المرتبطة بمجموعة الآليات السلطوية المختلفة داخل الحضارة الغربية.

فالمعقولية الغربية – حسب « ميشال فوكو » – مرتبطة بتقنيات القمع السلطوي الذي ما انفك يموضع الذات داخل الممارسات المعرفية وفي الممارسات الاستبعادية التّقسيمية وفي الممارسات الجنسانية.

ويتساءل فوكو قائلا  » هل ينبغي محاكمة العقل؟ »  فيجيب حالا بأ نّه  » لا شيء أعقم من ذلك « [8] . بل يجب اعتماد طريقة أخرى غير الإدانة والمحاكمة وهي طريقة أركيولوجية جنيولوجية تبحث في تحت تربة الظواهر السلطوية محللة السياق والتمفصلات في عدة ميادين وتجارب مختلفة، كالجنون والمرض والموت والجريمة والجنس وغيرها.

ولكن فلسفة فوكو – حسب رأينا – لا تبقي حبيسة المجال العلمي لهذه الأركيولوجية ، بل تتجاوز ذلك لتصبح فلسفةالمقاومة لأن المقاومة هي التي تكون حسب ميشال فوكو حافزا كيمياويا يسمح بتوضيح العلاقات السلطوية وبتبيين موضع اندراجها واكتشاف نقاط ارتكازها والطرائق التي تستخدمها.

فالمهم لا يكمن في دراسة عقلانية السلطة وجوهرها وماهيتها بل المهم هو تحليل علاقات السلطة من خلال تجابه الاستراتيجيات وأشكال المقاومة لتفكيك هذه الاستراتيجيات وفضحها والتشهير بها. لذلك تكون هذه الفلسفة هي نضال ضد كل ما لا يقبل. فهي نضال يؤكد الحق في الاختلافات لكل فرد في أي مجتمع كان ولكنه من ناحية أخري لا يعتبر هذا الحق هو انعزال عن الآخر، بل هو حق مع الغير من أجل تعايش حر. ذلك  ما سميته في أعمالي بفلسفة التآنس. وهي أيضا نضال ضد السلطة المرتبطة بالمعرفة والمشرعة للكفاءة والتي تعتمد الكذب والتحريف والخداع وتجعل من الحقيقة خلودا وثباتا لا يمكن زعزعتها. فالمهم هو فضح استعمال السلطة للمعرفة وطرق الهيمنة عليها. وهي أخيرا نضال ضد انحباس الأنا في المجرد. فنحن نعيش ونحيا، نحس ونتألم لذلك يجب التشهير بالممارسات العنيفة للسلطة اجتماعا واقتصادا وأيديولوجية ولاسيما التحقيق الإداري والتكنولوجي المحدد لهويتنا. وبكلمة واحدة تكون فلسفة فوكو هي نضال ضد تقنية السلطة اليومية المصنفة للأفراد والمعقلنة لهويتهم وحقيقتهم من خلال المعاقبة والمراقبة والتبعية والحشر، فهي نضال لكل أشكال الهيمنة والاستغلال والخضوع وهي نضال ضد كل تمركز للفكر وللممارسة تكون الغاية منه القبض على تلابيب الإنسان .


[1]   انظر كتابنا « الفلسفة الشريدة »، مركز الإنماء القومي ببيروت وانظر كتابنا « قراءات في فلسفة التنوع »، الدار العربية للكتاب تونس ليبيا.

[2]La crise des science et la phénoménologie transculturel, Trad. Granel, Gallimard, 1976, p.347.

[3]  Gilles Deleuze, Différence et répétition, Puf, Paris 1986.

[4]    Gilles Deleuze, Logique du sens, Minuit, Paris 1969.

[5]  Gilles Deleuze et Félix Guattari,  Mille Plateaux, Paris, Minuit, Paris 1980

[6]  نجد ذلك واضحا في كتابه عن الضيافة Jacques Derrida, De l’hospitalité, Paris 1997.       

[7]    Les modes de subjectivation

[8]  انظر كتاب »ميشال فوكو مسيرة فلسفية »  وهو من تأليف أوبير درفوس و بول رابينوف وترجمه إلى العربية جورج أبي صالح، منشورات مركز الإنماء القومي ببيروت.

Quitter la version mobile