Arwiqa Portiques – أروقة

افتتاحيّة

لماذا هذه النافذة على الثقافة الفرنسية المعاصرة للقارئ العربي اليوم؟

لا بد اولا من الإجابة عن هذا السؤال حتى نبرر هذا المشروع الذي نرمي إلى تجسيده والمتمثل في إصدار مجلة ورقية وإلكترونية تعنى بأخبار المشهد الثقافي الفرنسي المعاصر نقدمها إلى قارئ باللغتين العربية والفرنسية مع تركيز كمّي واضح على اللغة العربية.ا

تتجه المجلة إلى القراء باللغتين في العالم العربي وخارجه، وهي إذ تحرص أيضا على تقديم بعض المواد باللغة الفرنسية فلإدراكها لأهمية متابعة المشهد الثقافي والأدبي الفرنسي باللسانين. ولتحقيق ذلك سيجد القارئ في هذه المجلة بعض المقالات و الحوارات في لغتها الأصلية مع الحرص على وضع مقدمات أو ملخصات موجزة لها باللغة الأخرى.ا

 وبعبارة أخرى، نحن نريد لهذا المولود الجديد في الساحة الثقافية الفرنسية والفرنكفونية والعربية، ان يكون مناسبة للتفاعل واللقاء بالآخر، لقاء القارئ العربي خاصة بثقافة حية ومبدعة مثل الثقافة الفرنسية. ففي فرنسا تصدر دور النشر اليوم ما يقارب الـ 107000 كتابا في السنة (حسب احصائية 2015)  أي ما يوازي 293  كتابا جديدا في اليوم. ويعتبر هذا الرقم ضخما جدا حتى وان كان ياتي في الترتيب بعد الصين ( 470 الف كتاب 2015) والولايات المتحدة (339000 كتاب في السنة نفسها). وهو ما يضعها في المرتبة الرابعة عالميا. ولكن معدل عدد الكتب للساكن الواحد في فرنسا يبدو أكبر باعتبار النسبة الديمغرافية (1643 كتاب بالنسبة الى كل مليون ساكن). وتتفوق فرنسا على الولايات المتحدة في نسبة المعدل الزمني الاسبوعي لساعات القراءة إذ يخصص المواطن الفرنسي 6 ساعات و54 دقيقة للقراءة اسبوعيا في حين ان المواطن الامريكي يخصص 5ساعات و45 دقيقة. أما في ما يتعلق بالترجمة فان فرنسا تعد اكثر الدول الاوروبية ترجمة للاعمال الادبية والعلمية الانجلوسكسونية واليابانية والصينية والعربية[1]. مما يدل على حيوية فكرية وثقافية منقطعة النظير في هذا البلد الاوروبي الذي ما يزال يحافظ على موقعه الفكري والعلمي التقليدي في الغرب والعالم رغم كل ما يقال هنا او هناك ، في غير موضوعية ، عن تراجع المرتبة الفرنسية.ا

المركز الثقافي جورج بومبيدو، باريس

في سياق تعليق على المواقف المناهضة لتدريس اللغة الفرنسية في الجزائر وبلاد شمال إفريقيا قال كاتب ياسين إن الأمر يتعلق بـ »غنيمة حرب « Butin de guerre » ، مشيرا بذلك الى فضائل اللغة الفرنسية التي مكنت شمال افريقيا من التعرف على قيم التنوير والاستفادة من إضافات الفكر الفرنسي والغربي في شتى مجالات الابداع. يبدو ان موقف كاتب ياسين هذا ما يزال راهنيّا.ا 

فهل يمكننا تصور منطلقات النقد الادبي في جامعات تونس والجزائر والمغرب وبيروت دون امكانية الإطلاع والإستفادة من كتابات دريدا وفوكو وجيرار جينيه وغيرهم؟ سيكون من الغباء الكبير اليوم الانسياق وراء موجة التهريج التي تدعو إلى استبدال اللغة الفرنسية باللغة الانجليزية بدعوى أن هذه الأخيرة هي لغة العلم والتجارة العالمية. صحيح أن الانجليزية هي لغة عالمية للعلم والتبادل التجاري ولكن النظر إليها من هذه الزاوية  الضيقة في بلدان شمال إفريقيا يدل على رغبة، وإن غير مقصودة،  لدى البعض في تعطيل التواصل الثقافي مع الآخر بشكل عام وليس مع الثقافة الفرنسية فقط. فمن يدعو إلى الأخذ بالانجليزية لكونها فقط وسيلة للصياغات العلمية ولقضاء المصالح الاقتصادية هو طرف يحصر التفاعل مع الآخر في تبادل المصلحة المادية فقط، وبالتالي فإنه – وبطريقة ملتوية – يعطل الانفتاح الثقافي، ويساهم في التقوقع داخل أنا حضارية منغلقة. ثم إن اللغة الفرنسية، فضلا عن كونها ما تزال صالحة باعتبارها لغة للعلم، هي لغة حضارة، وثقافة معاصرة حيّة ونابضة ومقبلة على الخارج للتفاعل معه تبادلا وإثراءً مثلما أشرنا. فكيف نقبل أن نفرّط في التواصل مع لغة نتعلم منها آداب الحياة والإبداع الفكري؟

ما يقال عن اللغة يقال هنا عن الثقافة. لقد انتهى زمن الحديث عن الثقافة الفرنسية باعتبارها ثقافة استعمار لأننا اليوم أمام دول عربية وإفريقية تتمتع باستقلالها وبسياساتها الثقافية الخاصة. فالحديث عن الثقافة الفرنسية اليوم يتعلّق بحالة ثقافية مبدعة تجذب الآخرين نحوها بإضافاتها واثراءاتها التي لا مفر من التفاعل معها والاستفادة منها. إننا اليوم في العالم كمن يستمع إلى جوقة موسيقية يحتاج فيها كل عازف إلى أن يتقن العزف على آلته في إيقاع منسجم وتعاوني. فالثقافة عزف  جماعي لا يعترف بالتغريد خارج السرب.ا

ما نقوله عن الثقافة الفرنسية يمكن قوله عن اية ثقافة اخرى، وما على القارئ العربي إلا أن يتسلح بسلاح اللغة والترجمة للتفاعل مع بقية ثقافات العالم ليقاوم حالة الركود الفكري والعطالة الثقافية. فبقدر حاجة الثقافة العربية المعاصرة إلى الاستفادة من الثقافات الأخرى ، بقدر حاجتها أيضا إلى الثقافة الفرنسية بوجه خاص ، للوقوف على مواضع القوة والابداع فيها وعلى ما تتضمنه من بعد كوني هو ضروري وطبيعي في كل حالة ثقافية تكون حية ومبدعة. إن طريق الكونية هو الابداع، والثقافة الفرنسية اليوم تنحو منحى الكونية لأنها مبدعة. يشهد على ذلك ما يزخر به المشهد الثقافي اليومي من فكر مجدد ومن نقاشات كبرى وتظاهرات ابداعية أدبية وفنية لا يمكن للمرء إلا أن يلتفت إليها ويهتم بها ويتساءل عن معناها ويستفيد من اتجاهاتها.ت

في السنوات الأخيرة، رأينا كيف استضافت دولة الإمارات العربية المتحدة، علامتين كبيرتين من علامات الثقافة الفرنسية هما « متحف اللوفر » و »جامعة السوربون ». حسنا فعلت دولة الامارات. ولقد ذكّرنا ذلك بما قامت به فرنسا نفسها تاريخيا عندما ذهب مثقفوها ومفكروها الى إيطاليا الناهضة من سباتها في القرن السادس عشر للاستفادة من منجزات الحركة الإنسانوية الصّاعدة في الرّسم والنحت والفلسفة والأدب وسائر تعبيرات الفكر الأخرى. وها أننا نطرح على أنفسنا من هذا الموقع المتواضع، المساهمة في فتح نافذة على هذا الزّخم الثقافي الفرنسي كي يطلع القارئ العربي على ما يدور في مراكز وجامعات ومدن وقرى فرنسا من أنشطة فكرية وفنية، لعلّنا نساهم بذلك في إعطاء صورة أكثر وضوحا عن الثقافة الفرنسية لقارئ عربي نحن متأكدون من تعطشه إلى التفاعل المبدع مع الآخر، وتجاوز حالات النكوص والانغلاق والظلامية المتربصة به. كلنا أمل في أن نوفّق في هذا العمل.ا

رئيس التحرير

[1] انظر مثلا : MARIE-CHARLOTTE DAMASCO, « La littérature traduite en France : état des lieux », en ligne : Monde du Livre, PUBLIÉ 20 NOVEMBRE 2015 · MIS À JOUR 4 MARS 2016. [2] Cairn.info : « Combien y’a-t-il de musées en France ? », 15 02 2015.

Quitter la version mobile